التقرير الأخير عن عمليات التفتيش النووي الإيراني يكشف عن مخاوف متعددة
أشار فريق الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى أنه يريد العودة إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» والقيود الكثيرة التي تفرضها على الأنشطة النووية الإيرانية في حال توليه منصبه، فهو يريد وضع الأمور على السكة مباشرة بعد توليه مهامه في شهر يناير من عام 2021 وهو التاريخ الذي يتسلم فيه المرشح الديمقراطي زمام السلطة من الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يبدو حتى الآن ممتنعاً عن الاعتراف بخسارته، لكن التقرير الأخير لـ"الوكالة الدولية للطاقة الذرية" يُظهر أن برنامج طهران يمضي قدماً على أي حال، وكأنّ إدارة البلاد لا تأبه أو تبالي بأي عقوبات أو سياسات أو قيود تحاول الإدارة الأميركية أن تفرضها عليها، وحتى إذا نجحت الإدارة الأميركية المقبلة في إعادة العمل بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة» بشكل أو بآخر، فمن المحتمل أن تكون الاتفاقية مختلفة نوعاً ما، فكل الأمور لا تبدو واضحة بما فيه الكفاية حتى الآن.لقد ظهرت أخيراً مجموعةٌ من القضايا المثيرة للقلق للغاية في التقرير ربع السنوي الأخير لمفتشي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" الذين يراقبون عن كثب وبالتفصيل مدى التزام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة» لعام 2015، وقد نتجت هذه القضايا جزئياً عن قرار طهران عام 2019 بالتوقف عن الامتثال لبعض القيود المختلفة المفروضة على أنشطتها النووية المتنوّعة بعد أن أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحابها من الاتفاق.وفي هذا السياق، تبرز اليوم مسألتان أساسيتان بالنظر إلى المخاوف التي تثيرانها بشأن احتمالات تطوير أسلحة نووية وهما: زيادة تخصيب اليورانيوم، وتنقية البلوتونيوم من الوقود المستهلَك. وفي ما يتعلق بالمسألة الأولى، يكشف التقرير أن إجمالي مخزون إيران من اليورانيوم المخصب يبلغ حالياً نحو 2442.9 كيلوغراماً، أي ما يقرب من اثني عشر ضعف الكمية المتفق عليها بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». والأسوأ من ذلك كله هو أن معظم هذا المخزون المذكور أعلاه قد تمّ تخصيبه بنسبة 4.5 في المئة من النظير الانشطاري "اليورانيوم-235"، وهي خطوة مهمة للانتقال من اليورانيوم غير المخصب في الطريق لإنتاج مادة يمكن استخدامها في صنع الأسلحة، وتتعدى الحد البالغ 3.67 في المئة المنصوص عليه في «خطة العمل الشاملة المشتركة».
ولم يذكر التقرير الانفجار الغامض الذي لم تعرف أسبابه، ولم يتم اعلان تفاصيله الحقيقية رسمياً، والذي دمّر مصنع تجميع أجهزة الطرد المركزي في منطقة ناتانز (نطنز) في شهر يوليو الماضي. ويُعتقد أن تلك الحادثة المذكورة أعلاه، الني تُعزى على نطاق واسع جداً إلى هجوم إسرائيلي، عرقلت مساعي إيران الحثيثة لتجميع أجهزة طرد مركزية متطوّرة للغاية من نوع "آي آر-2م" (IR-2m)، الأمر الذي كان من دون أي شك سيتيح لها طبعاً تخصيب اليورانيوم بسرعةٍ أكبر وفعالية أكبر، ويشير غياب المعلومات العامة خصوصاً الرسمية منها حول هذا الموضوع وغياب أي تفاصيل تذكر حول حيثيات الحادث وملابساته- لم يذكر تقرير "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" من سبتمبر الانفجار أيضاً- إلا أن إيران تعتبر الحادث متعلقاً بالأمن، وبالتالي فهو سري، ولا يمكن إفشاء أي معلومات عنه أبداً، ولم يتضح ما إذا كان المفتشون قد زاروا المبنى المتضرّر أو اطلعوا عليه، إذ لم ترشح أي معلومات بهذا الصدد على الإطلاق، فبقي الأمر غامضاً بشكلٍ مريب ومثيراً للشك لأكثر من ناحية.ويُشار هنا إلى أن منشآت الطرد المركزي المعروفة في إيران هي "محطة تخصيب الوقود" الواقعة تحت الأرض، و"المحطة التجريبية لتخصيب الوقود"، وكلتهما تقعان في المنطقة المسماة ناتانز (نطنز)، ومصنع فوردو المبني في أعماق أحد الجبال النائية. وكان النظام الايراني يقوم بنقل أجهزة طرد مركزي أكثر تقدماً إلى "محطة تخصيب الوقود"، على الرغم من أنه لا يزال ملتزماً بالحدّ المفروض عليه بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة» والبالغ 5.060 جهاز طرد مركزيا من الجيل الأول (IR-1s) والتي هي قيد الاستخدام بالفعل. وقد التزمت الجهورية الإسلامية الإيرانية في الأصل أيضاً بالقيد التالي بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة»: "يكون موقع التخصيب في ناتانز (نطنز)، وعلى مدى 15 عاماً، الموقع الوحيد لكل الأنشطة الإيرانية المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، بما فيها البحث والتطوير المصونين". ولكن الجمهورية تخلّت على ما يبدو في العام الماضي عن خطط كانت تعتزم تحويل فوردو إلى محطة ذات استخدامات غير نووية، وتقوم منذ ذلك الحين بتخصيب اليورانيوم هناك مخالفةً بالتالي بشكل صارخ القرارات والالتزامات الصادرة بهذا الشأن والمتعارف عليها بشكلٍ موثق.وفيما يتعلق بمسار استخدام البلوتونيوم لإنتاج مواد متفجرة نووية- المسار الحافل بتحديات أكبر- يَذكر تقرير "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" أن إيران لا تسعى حالياً إلى بناء التصميم الأولي لمفاعل أبحاث الماء الثقيل أو إعادة معالجة الوقود المستهلك في أي منشأة معلن عنها، ومع ذلك تستمر إيران على ما يبدو وبشكلٍ فاعل في إنتاج الماء الثقيل رغم ادعائها عكس ذلك أو على الاقل نفيها للأمر. فضلاً عن ذلك يبدو أنّ التقرير مليءٌ بالكثير من المخاوف الأخرى أيضاً، والتي تتعارض مع الطريقة المهدّئة التي تستخدمها الوكالة لعرض تلك المخاوف، ومن الأمثلة الكثيرة الواردة على ذلك في سبيل المثال لا الحصر:• "استمرت إيران أيضاً في القيام ببعض أنشطة التخصيب التي لا تتماشى مع خطتها الطويلة الأمد للتخصيب والبحث والتطوير في مجال التخصيب رغم ادعائها العكس أو على الأقل نفيها للأمر من حين الى آخر، مع وجود أدلة دامغة تفيد بالعكس في هذا المجال...".• "اعتبرت الوكالة الردّ الإيراني على كل ما ورد أعلاه بشأن تخصيبها لليورانيوم، ونكثها لوعودها والتزاماتها السابقة والمتفق عليها غير مُرضٍ إطلاقاً ..."• "أبلغت الوكالة رسمياً إيران بأنّها لا تزال تعتبر الردّ الإيراني غير موثوق على الإطلاق من الناحية التقنية خصوصاً مع وجود أدلة ملموسة تفيد بعدم التزامها بالوعود التي أطلقتها..."• "إن تركيبة هذه الجسيمات المتغيرة نظرياً مشابهة للجسيمات التي وُجدت في إيران سابقاً، وهي ناتجة عن مكونات مستوردة لأجهزة الطرد المركزي..." (حول هذه النقطة، يستشهد التقرير بوثيقة سابقة لـ"الوكالة الدولية للطاقة الذرية" التي تكشف أن مكوّنات أجهزة الطرد المركزي موضع النقاش جاءت من باكستان، التي هي مصدر نموذج "IR-1" الإيراني ومزوّدة معلومات التصميم التي يعتمد عليها نموذج "IR-2m").باختصار، يبدو أنّ هذا التقرير يثير القلق للغاية، خصوصا أنه صدر بعد أسبوعين من كشف إيران عن مقطع فيديو لشبكة أنفاق متقنة معدّة للصواريخ التي من المحتمل أن تكون قادرة على حمل رؤوس حربية نووية، ومثل هذه الصواريخ غير مشمولة بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة»، والأمر نفسه ينطبق بشأن تدخلات إيران العسكرية العديدة في المنطقة. أخيراً، لا يمكن الاستهانة بالمهمة التي تواجه الإدارة الأميركية المقبلة في التوصل إلى اتفاقية جديدة فعالة مع طهران تستطيع عبرها إلزام الأخيرة احترام وعودها والوفاء بالتزاماتها من دون أي لف أو دوران ومن دون مواربة.● سايمون هندرسون