لعنة المال العام المسروق
استرداد الأموال المنهوبة أيا كانت طرق نهبها أمرٌ مستحق ومن أشد الضرورات، وهو السبيل الوحيد لاستلال السلاح الفتاك من يد قوى تتشكل منها الدولة العميقة التي تفرض إرادتها ومصالحها على الدول والمجتمعات، وأحيانا تلتهم إرادة وسلطة الدولة وتتحول الحكومات وكل الأحزاب ووسائل الإعلام وكل الفعاليات السياسية إلى واجهات وأدوات تتحرك وتنشط لتأبيد وتجذير سيطرة هذه القوى.هذه القوى المالية تتصارع فيما بينها صراعا تُنتهك فيه كل حدود الأخلاق والحُرمات، ولا مانع في حربهم من تدمير المجتمع ونشر الفوضى والدفع بالأمور إلى تحطيم مؤسسات الدولة وكل مقومات المجتمع المدني والدفع الى حالة الدولة الفاشلة.لذلك نجد أن القضاء على هذه القوى من أوجب الواجبات للحفاظ على مقومات ومفاصل الدولة المدنية التي يحكمها الدستور والقانون، وتقوم على حكم المؤسسات، ومما يزيد ثقتنا بحصانة دولتنا ضد هذه القوى ما صرح به سمو أمير البلاد، حفظه الله، قائلا: لا أحد فوق القانون.. ولا حماية لفاسد أياً كان اسمه أو مكانته.
لتحقيق ذلك أقترح كإجراء وقائي المسارعة في إقرار نظام ضريبي تصاعدي يشمل الجميع، فحتى من كان دخله ألف دينار يدفع واحدا في الألف، والهدف انكشاف حركة الدخل لإدارة الضرائب، وأي إدارة رقابية للوقوف على أي زيادة غير طبيعية في الدخل للتحقيق بشأنها فنمنع الرشوة مثلا. وأقترح فتح ملفات التعدي على الأموال والممتلكات العامة على يد خبراء ومختصين في عالم القانون والتجارة والاقتصاد والقطاعات التى جرى فيها النهب، وبعد استكمال التحري يتم تخيير السُّراق بين استرجاع المال أو الإحالة للقضاء، ولابد أن يكون المتهم على يقين من جدية الحكومة وما ينتظره من مصير مخيف يجبره على دفع ما استولى عليه بطرق الفساد.شهدنا ما نشر عن سرقات مؤخراً تعد بمئات الملايين والمليارات، وهنا لنا وقفة، فالأموال التي تبلغ عشرات ومئات وآلاف الملايين لا تُصنَّف أنها سرقة بل عدوان على المجتمع لأنها تعتبر نهباً لمقومات وجود واستمرار المجتمع وفاعليته وأمانه، وكأنها سحب لنخاع جسد المجتمع الذي يؤدي للشلل.هذه الأموال تستتبع عمليات تبييض الأموال المجرمة دوليا، فهي عُرضة للمصادرة أو الضياع فضلا عن أنها مجمدة في بنوك أجنبية أو فيما يعرف بالملاذات الآمنة وقدرة صاحبها محدودة في التحكم بها، وهو عُرضة للمحتالين والمبتزين من سُراق السُّراق.كذلك لا يمكن أن تكون سرقة هذه الأموال الضخمة تحكمها نوازع الطمع والطموح للذة والمتعة الذاتية، فهذه الأموال تتعدى على الأغلب ذلك إلى الهوَس بالأرقام، إذ ليس في قدرة الإنسان العادي والسَّوِي البعيد عن الأمراض النفسية أن تتلبَّسه خيالات وطموحات سقفها مئات الملايين والمليارات إلا إذا كان أحد ضحايا مرض القمار الذي يجد لذته في خسارة الأموال أو مرض سفاهة التبذير!! والكارثة وحتى يكون في حصانة دائمة ومتجددة ضد القانون فإنه سيدخل في حلبة الصراع السياسي فيشتري صحفا وفضائيات وذبابا إلكترونيا يتنابح الليل مع النهار ضد خصومه، ويدعم نوابا له في البرلمان ويتفنن في المزايدات السياسية وربما الإنسانية والدينية وتتصاعد أبخرة وأدخنة من الوعي الزائف في شكل تنظيرات وشعوذات علمانية، وفتاوى وأحكام دينية شيطانية الدين منها براء، نعم إلى هذا المدى تلعب خمرة المال بالعقول والأخلاق والسلوك، وصدق رب العزة جل جلاله في قوله تعالى: «اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، ويقول جل وعلا: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ». فالمال أتلف نفوس القيِّمين والمؤتمنين عليه من رجال الدين، لذلك لابد من استنقاذ المجتمع من لعنة الأموال المنهوبة وإلا فسننزلق إلى قعر الجحيم.