هل القادة يكذبون؟
يعتقد الكاتب جوزيف ناي أنه بإمكان القادة أن يختلقوا سبعة أنواع من الأكاذيب، ولكل نوع غرض محدد، وإن كانت كذبة واحدة تؤدي أغراضا متعددة، كتلك التي يطلقها قائد لشعبه بخصوص تهديد خارجي محتمل للحصول على دعم شعبي للتصدي للتهديد بإثارة الذعر وهذه بإمكانها أن تحيي الروح الوطنية.
هذا ليس سؤالاً عابراً، بل محور كتاب قرأته منذ فترة وهو بعنوان: "لماذا يكذب القادة" تأليف جون ميرشيمر وترجمة غانم النجار، وعدت إليه بعد أن وقعت عيناي على حوار نشرته جريدة "الجريدة" مع الكاتب الأميركي جوزيف ناي عن أهمية الأخلاق في العمل السياسي وربطها بالرؤساء الأميركيين. الواقع أن ترامب هو الأكثر افتقاراً إلى الأخلاق بين الرؤساء الأميركيين الأربعة عشر، الذين صنفهم في كتابه، فقد أطلق أكثر من 20 ألف كذبة خلال فترة رئاسته بحسب تحقيق استقصائي قامت به صحيفة "الواشنطن بوست". في هذا الشأن لم يعد مهماً، معرفة ما إذا كان الرئيس دونالد ترامب سيرحل بهدوء من البيت الأبيض أم سيسبب ضرراً للأمن القومي بإقدامه على عمل متهور غير محسوب!
ستبقى علامة الكذب تلاحقه في سنوات عمره، بعد أن أصحبت جزءاً من سلوكه وشخصيته بصرف النظر عن"بطولاته وإنجازاته"! يشرح البروفيسور "فيرشمر" كيف جاءت له فكرة الكتاب، بعد اتصال من أحد صحافيي جريدة "النيويورك تايمز" وإلقائه محاضرة حول "الكذب في السياسة الدولية". استخلص السبب الرئيس من اهتمام الناس بالفكرة باعتبار أنهم يعدون الكذب سلوكا مستنكراً وتهمة خطيرة لكنه يستدرك القول، أن "الكذب الدولي ليس بالضرورة فعلاً خاطئاً" فهو كثيراً ما ينم عن فراسة وضرورة في بعض الظروف. الانطباع العام لدى الجمهور وفي معظمه، يستهزئ بالفكرة، فهم يتصورون أن هناك أمثلة لا حصر لها كذَب فيها القادة على بعضهم، وبالتالي فإنه من السهولة استعراض حالات كثيرة من هذه الأكاذيب، وفي الأساس يعتقدون أن الكذب بين الدول أمر اعتباري في السياسة الدولية! حاول المؤلف الأكاديمي أن يجيب عن أربعة أسئلة في كتابه: 1- ما أنواع الأكاذيب الدولية التي يطلقها القادة؟ 2-لماذا يكذبون؟ وما المبررات المنطقية الاستراتيجية وراء كل نوع من أنواع الكذب؟ وما المنافع المحتملة للكذب التي دفعت القادة إلى الدخول في مثل هذا السلوك المشين؟ 3- ما الظروف التي تجعل من حدوث أي نوع من الكذب أكثر أو أقل احتمالاً؟ 4- ما التكاليف الكامنة للكذب ومدى تأثيرها في السياسة الحكومية للدولة وسياستها الخارجية؟ يعتقد الكاتب أنه بإمكان القادة أن يختلقوا سبعة أنواع من الأكاذيب، ولكل نوع غرض محدد، وإن كانت كذبة واحدة تؤدي أغراضا متعددة، كتلك التي يطلقها قائد لشعبة بخصوص تهديد خارجي محتمل للحصول على دعم شعبي للتصدي للتهديد بإثارة الذعر وهذه بإمكانها أن تحيي الروح الوطنية، وأسلوب "إثارة الذعر" يتم تغطيته استراتيجيا بإخفاء سياسات فاشلة والهدف "حماية أمن الدولة من الأذى". ثم يعدد الأنواع السبعة التي تتدرج بتوصيفها في صناعة الأساطير القومية "وقصص" نحن دائما على حق وهم دائماً على خطأ، وإلى "الأكاذيب الليبرالية" وغيرها، أما الكذب بين الدول فقد عكسها تعليق مشهور للدبلوماسي البريطاني، "هنري ووتون" بأن "السفير هو رجل أمين أرسل إلى الخارج ليكذب من أجل مصلحة دولته"! وهذا من وجهة نظر الكاتب طبعاً أوردها في معرض إثباته إلى أن الدول تكذب على بعضها، لاعتقادها أن الكذب يفيد مصلحتها الوطنية. وأنا من المؤمنين بأن رسالة أي سفير ولأي دولة أرفع من هذا الوصف وأبعد من ذلك بكثير، وواقع الحال يقول إن القادة السياسيين وممثليهم الدبلوماسيين يتعاملون بالصدق أكثر من الكذب، وحتى عندما يضطر أحدهم إلى أن يخدع الآخر كما يقول المؤلف فإنه يلجأ إلى الكتمان والإخفاء، لا إلى الكذب الصريح، فالسرية كما يعرف طلاب السياسة الدولية هي تقليد عريق تستغله الدولة لتطوير استراتيجيتها وأسلحتها للتفوق على منافسها. يعتقد المؤلف أن الكذب بين الدول هو أمر غير اعتيادي، ذلك لأن خداع قادة دول أخرى أمر بالغ الصعوبة وحتى عندما يكون الأمر ممكناً، فإن تكلفة الكذب غالباً ما تتجاوز فوائده، وهناك مبررات قوية ترغمنا على ألا نتوقع أن يكون الكذب بين الدول ممارسة عادية. أما لماذا تكذب الدول على بعضها، فالسبب يعود إلى كسب تفوق استراتيجي عليه وهذا من باب توفير الحماية الذاتية! يتحدث بإسهاب عن "استراتيجية إثارة الذعر" والتي أخدت دوراً مهماً في السياسة الخارجية الأميركية في السبعين سنة الماضية، ويورد أمثلة على كذب قادة أميركيين عندما لجأت حكوماتهم إلى استخدام تلك الاستراتيجية لجر الشعب الأميركي المتردد إلى الحرب، بدءاً من الرئيس روزفلت وصولاً إلى الرئيس جورج بوش مروراً بالرئيس جونسون. وفي هذا المجال يطرح السؤال، لماذا يلجأ القادة إلى إثارة الذعر؟ ويجيب.. عندما يشعرون بأن هناك خطراً مباشراً يهدد الأمن الوطني لا يراه الشعب ولا يمكنه تقديره بالطرق المباشرة، ويظن القادة أن الطريقة الوحيدة لتحريك الشعب لفعل الصواب هو خداعهم من أجل مصلحتهم! والأخطر من ذلك عندما تستخدم النخبة سلاح إثارة الذعر. في كل فصل من الفصول التسعة من الكتاب الذي صدر عن "سلسلة عالم المعرفة" قصص ووقائع تستحق القراءة والمطالعة ففيها ما يفيد العقل والروح، والوقوف على حقائق الكذب في السياسات الدولية. اتضح للكاتب أنه على الرغم من أن الكذب مدان كسلوك مشين ومرفوض فإن القادة يؤمنون بأنه أداة مهمة في إدارة شؤون الدولة، من الممكن بل من الواجب استخدامها في ظروف متنوعة!
علامة الكذب ستبقى تلاحق ترامب في سنوات عمره بعد أن أصبحت جزءاً من سلوكه وشخصيته بصرف النظر عن «بطولاته وإنجازاته»!