الخليج وثقافة الديمقراطية (2) «الحاضن الاجتماعي»
لا ديمقراطية مثمرة بلا ثقافة ديمقراطية تسود المجتمع وتشكل عقول أفراده ووجدانهم، وتخلق قناعة مجتمعية عامة بضرورتها، ولذلك لا يمكن للغرس الديمقراطي أن يزهر في البيئة الخليجية، أو العربية عامة بدون الثقافة المخصبة له، وأعرق تجربتين ديمقراطيتين: مصر عربياً، والكويت خليجيا، خير برهان.ثقافة الديمقراطية بحاجة إلى الحاضن الاجتماعي الذي يقوم على غرسها في التربة الاجتماعية، ورعايتها بما يضمن نموها وتغلغلها في النسيج الاجتماعي، ويعمل على تأسيسها قناعة ثابتة في الوعي العام كقناعة العقل بالضروريات البدهية طبقا للجابري.ما الحاضن الاجتماعي؟
إنه تنظيمات المجتمع المدني المسؤولة عن التنشئة المدنية السياسية المبكرة للمواطن عبر الجمعية والنادي والنقابة والحزب، والحارسة لقيم وثقافة الديمقراطية من الانكفاء والارتداد والانتكاس، وإذا كان من المسلمات في أدبيات التنمية أنه لا تنمية مستدامة بدون ديمقراطية فكذلك لا ديمقراطية من غير مجتمع مدني، وطبقاً لسعدالدين إبراهيم، رائد بحوث المجتمع المدني: إذا زرعت أو نقلت شجرة الديمقراطية إلى تربة أي بلد بلا مجتمع مدني فلن تعيش، وإذا عاشت فإن ذلك يكون بوسائل صناعية إلى أن يقبلها الجسم الاجتماعي السياسي، وهو لن يقبلها إلا إذا ساندت هذه الشجرة المستزرعة تنظيمات مجتمع مدني.كان هذا تمهيداً ضرورياً لفهم أبعاد الإخفاق الخليجي، والإخفاق العربي عامة، في استزراع شجرة الديمقراطية في التربة المجتمعية، رغم التجارب العربية المبكرة في استيراد أشكال وآليات ومظاهر ديمقراطية.عرفت مصر ومنذ عشرينيات القرن الماضي، نظماً انتخابية برلمانية، ومبدأ الفصل بين السلطات، وصحفاً حرة، وأحزاباً سياسية حاكمة ومعارضة، لكن لم ترسخ شجرة الديمقراطية جذورها لتقوى على مقاومة قوى الثورة التي اقتلعتها تحت شعارات زائفة، وفِي الكويت التي عرفت الديمقراطية في الستينيات: نظاماً انتخابياً، وبرلماناً كامل السلطات، ودستوراً ديمقراطياً متقدماً، بل كانت لها مجالس شبه منتخبة، وحركة شعبية فاعلة، وقوى معارضة سياسية مؤثرة، منذ ما يزيد على 90 عاماً، طبقاً لأستاذ العلوم السياسية والخبير الحقوقي الدولي غانم النجار، لكن رغم هذا التاريخ المبكر والمشرق خليجياً، صارت الانتخابات الكويتية أسيرة القبيلة والطائفة والعائلة والجماعة المؤدلجة والسلطة، والمرشح بحاجة إلى فزعتها، ووصلت إلى مقولة (أنت شو قبيلتك؟!) بحسب الفنان عبدالله الحبيل. قرن من الزمان في التجارب الديمقراطية ولم نحقق النهضة المنشودة، ولم نتجاوز الأوضاع المتردية، فأين الخلل؟ هل هو في التطبيق أو التنظير؟!الخلل، في تصوري، أننا ركزنا جهودنا على (البنية الفوقية) للديمقراطية: صندوقاً انتخابياً ومجلسا تشريعياً، ودرنا في (فلك السلطة) السياسية: موالاة أو معارضة، ولم نحشد الجهود الكافية لترسيخ (البنية التحتية) للديمقراطية: ثقافة، قيماً، وعياً، ومسلكاً: في البيت على مستوى التنشئة الأولى، فِي المدرسة على يد المربي، فِي الجامعة لأن الأستاذ قدوة ديمقراطية لطلابه، وفِي تنظيمات المجتمع المدني كمدارس شعبية لثقافة الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، فلم تترسخ ثقافة الديمقراطية، ولم تغرس شجرة الحريات جذورها في الأرضية الاجتماعية. وهذا مدعاة لتساؤل: ما القيمة الحقيقية لإشغال المجتمع بالانتخابات في ظل التضييق على الحريات وملاحقة ومحاكمة نشطاء التغريدات؟! إن انشغالنا الطويل بالسياسي والأيديولوجي، أتى على حساب القيمي والثقافي، وفضلاً عن أنه أوصلنا إلى طريق مسدود، فقد أفرز شخصيات متلونة، تنادي بالديمقراطية وتمارس نقيضها سواء في المجال السياسي أو الثقافي أو الديني، لأننا نفتقد ثقافة الديمقراطية.لو أن نخبنا ركزت جهودها على تحقيق إنجازات تراكمية اجتماعية على مستوى تنظيمات المجتمع المدني، لأفرزت في النهاية تغييرات نوعية سلمية، تقي مجتمعاتنا نوبات العنف التي أجهضت كل الإنجازات النسبية المتحققة، ولاستطاعت هذه التنظيمات تعزيز الهامش الديمقراطي النسبي المتحقق وتوسيعه وحمايته، ولمنعت انكفاءه وانتكاسه.أخيراً: إن المجتمع المدني رهان المستقبل، والشرط الموضوعي للديمقراطية، ولن تتأصل الديمقراطية: فكراً وثقافة ومسلكاً في وعي الإنسان الخليجي والعربي وتتحول إلى قناعة راسخة، إلا بتفعيل تنظيمات المجتمع المدني في التغيير الثقافي، طبقاً لقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وللحديث بقية.* كاتب قطري.