خطة استراتيجية في أوروبا بعد الانتخابات الأميركية 2020
حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الفوز في 4 نوفمبر، وقال إنه سيطلب من المحكمة العليا الأميركية وقف احتساب الأصوات عن طريق البريد (تشكّل جزءاً كبيراً من الأصوات المتبقية التي لم يتم احتسابها بعد)، أدرك عدد كبير من السياسيين الألمان معنى ما يحصل: إنه طعن في مبادئ الديمقراطية الأساسية وتهديد للفكرة التي تمثّلها الولايات المتحدة، ومن المنطقي إذاً أن يخافوا من احتمال فوز ترامب بأربع سنوات إضافية.لكنهم ليسوا ساذجين بما يكفي كي يظنوا أن جميع الاضطرابات والخلافات التي واجهتها أوروبا مع ترامب ستختفي بكل بساطة لمجرّد وصول المرشّح الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021.ستنشغل إدارة بايدن بالمسائل الداخلية لدرجة ألا تعود أجندة السياسة الخارجية، بما في ذلك التغير المناخي، على رأس الأولويات الأميركية، ونتيجةً لذلك، سيواجه الاتحاد الأوروبي مشكلة كبرى ما لم يغيّر طريقة عمله، وفي مطلق الأحوال سيضطر قادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لا سيما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لاستعمال نتيجة الانتخابات الأميركية لإخراج أوروبا من عجرفتها واكتفائها بالوضع الراهن.
يرتكز هذا الموقف في الأصل على عدم استعداد أوروبا للتعامل مع التهديدات الأمنية جدياً وجماعياً، وقد سمح هذا الوضع لقادة بلغاريا والمجر وبولندا مثلاً بتجاهل حُكم القانون بالكامل. إنه الوقت المثالي كي يبدأ الاتحاد الأوروبي باتخاذ خطوات سياسية واستراتيجية حاسمة.أولاً، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ التدابير اللازمة لفرض العقوبات على الحكومات التي تُضعِف قِيَمه الأساسية وبنود معاهدته. حان الوقت كي يتوقف البرلمان الأوروبي أو المجلس الأوروبي أو المفوضية الأوروبية عن الإشادة بتلك القيم شفهياً، ويجب ألا تكتفي هذه الجهات بعد الآن بإطلاق تهديدات عابرة ضد الدول الأعضاء التي تنتهك القيم الديمقراطية.ثانياً، لن يكتسب الاتحاد الأوروبي أي نفوذ استراتيجي إذا لم يعزز تكامله السياسي، وتحتاج هذه المسألة تحديداً إلى توضيح من برلين، وكلما تأخرت هذه الخطوة، ستزيد مخاطر التفكك السياسي داخل الاتحاد، إذ تترسخ هذه النزعة بسبب أداء القادة القوميين والشعبويين ونتيجة جمود رؤساء مؤسسات الاتحاد الأوروبي. ثالثاً، يجب أن يعرف قادة الاتحاد الأوروبي أن اتكال أوروبا على حلف الناتو لحماية أمنها ودفاعها ليس عاملاً مضموناً في جميع الظروف.أصبح ازدراء ترامب بالناتو معروفاً، أما إدارة بايدن المرتقبة، فلن تعود إلى حلفائها بكل بساطة، إذ يكفي أن نتذكر إلى أي حد شعر وزراء الدفاع في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما باليأس من الشوائب الاستراتيجية والمالية في حلف الناتو.كذلك، يشعر قادة البنتاغون بالإحباط بسبب عجز أوروبا عن التعامل بجدّية مع شؤونها الأمنية والدفاعية، ويجب أن يوضح القادة الأوروبيون، لا سيما الدول الكبرى، إلى أي حد يريدون اكتساب "استقلالية استراتيجية" في هذا المجال بالذات، أو يعبّروا عن رغبتهم في منح الناتو قوة استراتيجية حقيقية.في مطلق الأحوال، أصبح حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في المركب نفسه، وبما أن معظم الدول الأوروبية منتسبة إلى المنظمتَين معاً، تتقاسم هذه البلدان مشكلة فكرية واحدة تتمثّل بغياب أي ثقافة استراتيجية لتبنّي فكرة "القوة الصلبة"، ويترافق هذا النقص مع تداعيات كبرى على مستوى علاقات أوروبا بالدول المجاورة لها شرقاً وجنوباً.من حق القادة الأوروبيين أن يتذمروا من قلة اهتمام ترامب بالصراع المحتدم بين أرمينيا وأذربيجان بسبب إقليم "ناغورني كاراباخ" المتنازع عليه، أو التظاهرات السلمية المنادية بالديمقراطية في بيلاروسيا، أو السياسة الخارجية المدمّرة التي يطبقها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.لكن بما أن هذه المسائل كلها تؤثر على أمن أوروبا واستقرارها، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى اكتساب القوة السياسية والاستراتيجية اللازمة لمعالجة تلك المسائل بنفسه، ففي الوقت الراهن يستغل القادة في تلك البلدان المجاورة وفي روسيا فراغ القيادة الذي خلّفته الولايات المتحدة وعجز الاتحاد الأوروبي عن التعويض عن ذلك الفراغ بأي شكل من الأشكال. لن ينجح الرئيس الأميركي المقبل، بغض النظر عن هويته، في إعادة ترميم القيادة الأميركية العالمية بين ليلة وضحاها، إذ يُفترض أن يكون هذا الوضع سبباً كافياً كي يتخلى الأوروبيون عن عقليتهم الراهنة التي تسيء إلى مصالح الاتحاد وقِيَمه وتعوق أي محاولات لتحويله إلى قوة استراتيجية كبرى.* «جودي ديمبسي»