أوزبكستان... نضال طويل في سبيل حرية التعبير!
كانت الشمس لم تغرب بعد في ذلك اليوم من شهر أغسطس الماضي، حين غادر بوبومورود عبد اللهيف شقته في العاصمة "بيشكيك". لم تكن انشغالاته كثيرة في تلك الأيام، فقد حَبَسه وباء كورونا في قيرغيزستان حيث كان يحضر دورة للصحافيين والمعتقلين السياسيين السابقين في "الجامعة الأميركية في آسيا الوسطى"، وفي ذلك اليوم مرّ عبد اللهيف بالقرب من متجر بقالة وفكّر بشراء بعض المنتجات لملء ثلاجته الفارغة لكنه عاد وقرر التسوق بعد شراء وجبة جاهزة من مطعم محلي.لكنه لم يصل إلى المطعم مطلقاً، فقد اقترب منه رجلان في الشارع وطلبا منه مرافقتهما، كانا يرتديان ملابس مدنية ولم يُعرّفا عن نفسَيهما، لكن عبد اللهيف يستطيع أن يتعرّف على عملاء الأجهزة الأمنية فور رؤيتهم، لذا سمح للرجلَين باصطحابه إلى سيارة، ثم أخذاه إلى مقر لجنة الدولة للأمن القومي، أي وكالة الاستخبارات في قيرغيزستان.حين وصل عبد اللهيف إلى هناك، اكتشف أن الأجهزة الأمنية اعتقلته بطلبٍ من حكومة أوزبكستان، إذ يظن بلده الأم أنه كاتب مدوّنة "قرة مرغان" مجهولة المصدر التي اكتسبت شهرة واسعة وأصبحت شوكة في خاصرة السلطات الأوزبكية.
كانت منشورات تلك المدوّنة مشينة لدرجة أن تقرر أوزبكستان محاكمة كاتبها بتهمة محاولة إسقاط الرئيس (بموجب المادة 158 من القانون الجنائي) والانقلاب على النظام الدستوري (المادة 159). قد يصل عقاب هاتين الجريمتَين إلى السجن لمدة 20 سنة.خلال السنوات الأربع الماضية من عهد الرئيس شوكت ميرزيوييف، أطلقت أوزبكستان حملة إصلاحية، حيث منح الحاكم الجديد مساحة إضافية للمواطنين كي يعبّروا عن مخاوفهم ومشاكلهم، وأصبحت منصات مواقع التواصل الاجتماعي أداة متاحة للجميع بعد حظر عدد كبير منها سابقاً، وقد فاجأت هذه الخطوة شعب أوزبكستان وأسعدته في الوقت نفسه، وسرعان ما نشأت مدونات ومواقع إلكترونية جديدة لملء الفراغ الإعلامي الكبير في هذا البلد، ونتيجةً لذلك، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تحديداً مساحة عامة تسمح للناس بمناقشة المسائل الاجتماعية والسياسية المستجدة صراحةً.لكن بعد مرور أربع سنوات على إصلاحات ميرزيوييف، لا تزال حرية التعبير في أوزبكستان بعيدة المنال، فقد أكد الرئيس في مناسبات متكررة على ضرورة منح الصحافيين وأصحاب المدوّنات الحق بانتقاد السلطة، ومع ذلك تقبع أوزبكستان في أسفل تصنيفات حرية التعبير.تكررت الأخطاء في هذا المجال للأسف، إذ يؤدي انتقاد الأثرياء والنافذين في حالات كثيرة إلى زيادة الضغوط أو التهديدات من جانب المسؤولين أو الجماعات الهمجية التابعة لهم أو الأجهزة الأمنية.في شهر سبتمبر الماضي، اضطر صاحب مدونات الفيديو شوكت إيغامبيردييف لحذف فيديو ساخر بحجّة أنه يسيء إلى سمعة شركتَي "أرتيل" و"أكفا" اللتين أسّسهما رئيس بلدية "طشقند" جاخوغير أرتيخودجاييف. في نوفمبر 2019، سُجّل صوت رئيس البلدية وهو يهدد الصحافيين بإحراجهم علناً (سأضعكم في سيارة أجرة وأقضي عليكم خلال ست ثوانٍ!) والتعرّض لهم جسدياً (يكفي أن تتركوا منازلكم ليومين أو ثلاثة من دون سبب كي تختفوا بالكامل).خارج "طشقند"، يبدو الوضع أسوأ، ففي شهر أغسطس الماضي، استدعت السلطات في جمهورية "كاراكالباكستان" ذاتية الحكم صحافياً في منتصف الليل لأنه نشر تقريراً عن موت رئيس الجمهورية الذي تم الإعلان عنه بعد أيام، وخلال الشهر نفسه نُقِل صاحب مدوّنة من منطقة "سوخ" الأوزبكية إلى "فرغانة" وهو مغطى الرأس لأنه دعا إلى إسقاط شكرات جانييف، رئيس بلدية "فرغانة" الذي بقي في منصبه لوقتٍ طويل. وبعد أسابيع قليلة، عُيّن هذا المسؤول نائباً لرئيس الوزراء.يتخذ هذا النوع من القضايا مساراً مثيراً للاهتمام أحياناً، وبعد أسبوعَين على اعتقال عبد اللهيف في قيرغيزستان (لم يُسمَح له في هذه الفترة برؤية محاميه أو استئناف أمر تسليمه إلى بلده)، أُعيد إرساله إلى أوزبكستان.وصف عبد اللهيف تجربته قائلاً: "نقلوني إلى الأجهزة الأمنية الأوزبكية، وسألني هناك أشخاص مع كاميرات إذا كنت أحمل أي شكوى، فأخبرتُهم بأنني مُنِعتُ من رؤية المحامي وأنهم لم يسمحوا لي بكتابة طلب استئناف وخنقوني. كتبتُ شكوى سريعة عما حصل، ثم وضعوني على متن طائرة عسكرية، لكن لم يكبّلني المسؤولون الأوزبك، بل كانوا لطفاء وتكلموا معي بطريقة محترمة. كنتُ أظن أنهم سيضربونني في الطائرة لكنهم لم يفعلوا، هبطنا في "طشقند" ثم ساقوني من هناك إلى مكتب الأجهزة الأمنية واتصلوا بمحاميّ، ثم استجوبوني وأطلقوا سراحي بعدها".في غضون ذلك، كانت معظم ممتلكات عبد اللهيف قد وصلت إلى عنوانه في "طشقند"، باستثناء هاتفه وحاسوبه المحمول. بعد اعتقال عبد اللهيف بوقتٍ قصير، اتّضح أنه لم يكن كاتب مدوّنة "قرة مرغان". فقد تابعت المدوّنة التي تنتقد الحكومة حملتها وأصدرت منشورات جديدة حين كان عبد اللهيف في السجن، ومع ذلك لم يتّضح مصيره قبل مرور أسابيع. في النهاية، تمّت تبرئته من جميع التُهَم في منتصف أكتوبر، وفي تحوّل لافت للأحداث، قدّم له الرئيس شقة من ثلاث غرف كجائزة ترضية على معاناته أو كمحاولة يائسة من السلطات الأوزبكية لحفظ ماء الوجه غداة حملتها الهجومية المشينة ضد صحافي.يقول عبد اللهيف: "ربما أراد أحد المسؤولين في الأجهزة الأمنية إثبات نفسه أمام الرئيس عبر ادعاء العثور على الطرف الشرير. لقد أرادوا إثبات مدى احترافهم وسرعتهم".لكن لا تنتهي جميع القضايا بهذه الطريقة الإيجابية وقد جاء فيروس كورونا المستجد ليكشف مدى هشاشة حرية التعبير في أوزبكستان، وفي مارس الماضي، فرضت الحكومة تعديلات تشريعية جديدة ضد تأجيج مشاعر الهلع ونشر معلومات كاذبة حول الفيروس وقد تصل العقوبة إلى السجن لمدة ثلاث سنوات. في بداية أيار الماضي، انفجر سد "سردوبا" في منطقة "سيرداريو"، ثم أدى الفيضان الذي سبّبه إلى تهجير 100 ألف شخص في أوزبكستان وكازاخستان معاً. ذهبت أنوار سوديكوفا، مراسلة في وكالة الأنباء الحكومية Uza.uz ، إلى هناك للتحقيق فيما يحصل والتكلم مع المتضررين، فأصابتها صدمة كبيرة، فقد عبّر الأشخاص الذين فقدوا كل شيء بسبب الفيضان عن شكرهم المتكرر للرئيس لأنه مستعد للتعويض عن خسائرهم.شعرت سوديكوفا بالذهول فكتبت منشوراً على فيسبوك تُعبّر فيه عن غضبها من الوضع القائم: "من أنتم؟ أي نوع من الأشخاص يشكر الحكومة قبل أن تُحرّك ساكناً؟ هم يكتفون بالحصول على قوتهم اليومي". سرعان ما تداول الناس منشورها على نطاق واسع.تقول سوديكوفا: "اتصل بي رئيس التحرير وطلب مني حذف المنشور، فقلتُ له إنني لن أقوم بذلك واعتبرتُ ردة فعل الناس نتيجة أحداث آخر عشرين سنة، وليس لديّ شيء ضد ميرزيوييف". لكن بعد مرور بضعة أيام، تلقّت خبر فصلها من عملها.تعليقاً على الموضوع، تضيف سوديكوفا: "كتبتُ على فيسبوك أن خيري الدين سلطانوف (كاتب خطابات الرئيس) هو من طردني. كانت علاقتنا متوترة منذ البداية وهو الشخص الوحيد الذي يستطيع التأثير على قرار رئيس تحرير الصحيفة التي أعمل فيها، وتلقيتُ معلومات جديرة بالثقة مفادها أنه المسؤول عما حصل، وأجريتُ مقابلة مع قناة "بي بي سي" ونشر الكثيرون ما كتبتُه، بما في ذلك عدد من النواب. الناس دعموني وأعلنوا أن الصحافيين يجب ألا يُطرَدوا بسبب منشوراتهم على فيسبوك".زادت الضغوط عليها بعد منشورها الثاني، فبدأ البعض يتصل بها وعرّف عدد منهم عن نفسه كموظف في مكتب الضرائب وسُئِلت عن شركة أغلقتها قبل سنوات، وبعد وقتٍ قصير، بدأت تتلقى التهديدات، كذلك، تلقى زوجها، وهو مسلم متديّن، مكالمات هاتفية من أشخاص يهددونه بالسجن بسبب دعمه المزعوم لحركات إسلامية متطرفة، وأوضحوا له أن العيش تحت سقف واحد مع زوجته أصبح خطيراً، فلم يتمكن زوج سوديكوفا من تحمّل هذه الضغوط كلها، وسرعان ما تركها وأخذ ابنهما معه.في النهاية، وافقت سوديكوفا على الاعتذار علناً واسترجعت وظيفتها، لكن لم يفارقها الشعور بالظلم يوماً.كانت وسائل الضغط الأخرى مباشرة بدرجة إضافية، فقد صرّح عدد من الصحافيين لصحيفة "دبلومات" بأن أباطرة الأعمال كانوا ينظمون المناسبات للصحافيين وأصحاب المدونات للتأثير على طبيعة تقاريرهم عبر منحهم الهدايا ومعاملتهم بلطف، ولجأ آخرون إلى الجيوش الإلكترونية التقليدية كتلك التي تُستعمل في الجامعات المحلية لإدانة المنشورات التي تفضح أخطاء أرباب عملهم بعنف، لكن رغم هذه الضغوط كلها، يستحيل كبح بعض المسارات الراهنة.تقول دارينا سولود، صحافية ورئيسة تحرير موقع Hook.report: "كان الرأي العام يخاف سابقاً من التعليق على الأحداث أمام وسائل الإعلام، لكن حين يشاهدنا الناس اليوم ونحن نحمل الكاميرات، باتوا يتوقون إلى التعبير عن رأيهم، إذ لا يزال الخوف سائداً وسط الصحافيين تحديداً وتبقى الرقابة الذاتية ظاهرة شائعة، لكنّ الضغط على العاملين في وسائل الإعلام سيصبح مستحيلاً في وقتٍ قريب لأن الناس يتفاعلون سريعاً عند وقوع أي حدث. لقد تغيّر المجتمع كثيراً ولا أحد يستطيع السيطرة على تدفق المعلومات بعد الآن، قد يحاولون حظر فيسبوك، لكن يجيد الناس الالتفاف على هذه المشكلة، وقد يحاولون إرجاع الزمن إلى عصر كريموف، لكن لن تنجح محاولاتهم".• أغنيسكا بيكوليكا ويلكزيوسكا