تثبت الصراعات المستمرة في أفغانستان وليبيا والسودان وسورية وأوكرانيا واليمن مثلاً أن أعمال العنف المُنظَّمة والمسلحة في البلدان الأصغر حجماً لم تعد قليلة في الوقت الراهن. ونظراً إلى مسار السياسة الملطّخ بالدم منذ بداية النظام الدولي المعاصر في القرن السادس عشر، يبدو غياب الحرب بين القوى العظمى منذ عام 1945 مفاجئاً. لكن لا يعني ذلك أن هذه الأشكال من الصراعات أصبحت مستبعدة.
ورغم إصرار الأكاديميين والسياسيين على عدم اعتبار الحرب بين القوى العظمى تهديداً حقيقياً، لا تزال الظروف التي تزيد احتمال اندلاع تلك الحرب قائمة حتى اليوم. ومع الاضطرابات بين القوى العظمى راهناً، على رأسها الولايات المتحدة والصين، قد يؤدي أي عدد من نقاط الاشتعال إلى اندلاع صراع بين تلك الدول.ويتجه هذان البلدان تحديداً نحو صدام قوي بسبب تراكم عوامل انتقال السلطة وتنافسهما على المكانة والامتيازات. ومن دون تغيير هذا التوجه، لن تكون الحرب بينهما خلال العقود المقبلة ممكنة فحسب بل شبه حتمية.
تفاؤل في غير محله
ورغم احتدام المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، لا يصدّق معظم الأميركيين الذين يفكرون جدّياً بالسياسة الخارجية واستراتيجية البلد الكبرى بأن الحرب محتملة. وهذا التفاؤل يشتق في المقام الأول من نظريات بارزة عن سلوك الدول، ووفق النظرية الأولى، يؤدي ارتفاع مستوى الترابط الاقتصادي بين أي بلدين إلى تراجع مخاطر الصراعات العنيفة. لكن تتعدد الأمثلة التاريخية التي تدحض هذه الفرضية. ولم تكن البلدان الأوروبية مترابطة اقتصادياً وثقافياً يوماً بقدر ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان الارتباط بين النظامَين الاقتصاديَين في بلدَين متناحرَين خلال ذلك الصراع (المملكة المتحدة وألمانيا) وثيقاً جداً. وحتى لو نجح الترابط بين الولايات المتحدة والصين في تخفيض مخاطر اندلاع الحرب بينهما نظرياً، فإن روابطهما الاقتصادية بدأت تتصدع في السنوات الأخيرة فيما راح كل بلد ينفصل عن اقتصاد الطرف الآخر.كذلك، يشتق التشكيك باحتمال وقوع حرب بين القوى العظمى من الإيمان بقوة الردع النووي. لا شك في أن احتمال الدمار المؤكد المتبادل الذي ينجم عن الحرب النووية انعكس على الحرب الباردة ومَنَع تفاقمها. لكن في العقود الأخيرة، أصبحت الفرضية المستبعدة ممكنة بسبب خليط من الرؤوس الحربية النووية المصغّرة ومنخفضة القوة وأنظمة التوصيل عالية الدقة: إنها فرضية الحرب النووية "المحدودة" التي لا تُسبب دماراً شاملاً.أخيراً، ظن محللون آخرون أن النظام الدولي الليبرالي المزعوم سيحافظ على السلام. وفق هذا الرأي، باتت القيادة الأميركية ومبادئ التعاون السلمي تضمن تحركات دولية منتظمة ومتوقعة. وقد طرح البعض، على غرار العالِم السياسي غيلفورد جون إيكينبيري، نظرية تفاؤلية وتوقّع أن يصمد هذا النظام لعقود عدة مستقبلاً بغض النظر عن تنامي نفوذ الصين وانتهاء الهيمنة الأميركية في نهاية المطاف. لكن يطرح هذا الافتراض إشكالية معينة.هذا النظام يواجه تحديات لا تقتصر على تغيّر الديناميات الدولية فحسب، بل ترتبط أيضاً بالتطورات السياسية في الدول التي تدافع عنه تقليدياً. في الولايات المتحدة وأوروبا، يشكّل توسّع الشعبوية والديمقراطية غير الليبرالية ردة فعل قوية ضد النظام الراهن والنُخَب التي تؤيده وتستفيد منه. فيما يتراجع الدعم المحلي لذلك النظام ويميل ميزان القوى لصالح بلدان أخرى، لا مفر من أن تضعف فاعلية النظام عند لعب دور الوساطة خلال الصراعات. كذلك، قد تجد القوى الناشئة فرصة لمراجعة بنية النظام بالكامل، ما يُجدد احتمال الحرب.معركة فكرية؟
برأي القادة الصينيين، يشكّل تاريخ بلدهم حكاية تحذيرية حول ما قد يحصل للدول الكبرى التي تفشل في اكتساب صفة القوة العظمى. يظن المحللون أن هزيمة الصين أمام البريطانيين والفرنسيين خلال حربَي الأفيون في منتصف القرن التاسع عشر تشتق من عجزها عن التكيف مع التغيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية. وبسبب ضعف الرد الصيني، تمكنت الجهات الإمبريالية الأكثر قوة من السيطرة على شؤون البلد. يسمّي الصينيون الحقبة اللاحقة، حيث كبحت القوى الغربية واليابان الصين، "قرن الإهانة".نجحت الصين في توسيع نفوذها اليوم نتيجة رغبتها في الانتقام بعد الإهانة التي تعرّضت لها واسترجاع المكانة التي كانت تحتلها قبل القرن التاسع عشر باعتبارها القوة المُهيمِنة في شرق آسيا. وكان برنامج "الإصلاح والانفتاح" الذي وضعه دينغ شياو بينغ أول خطوة في هذه العملية. عمدت الصين إلى إعادة الاندماج في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لتعزيز نموها الاقتصادي وعصرنة البلد. في هذا السياق، أعلن دينغ شخصياً في عام 1992: "المتأخرون يتعرضون للهزيمة"! لم تكن بكين تهدف بكل بساطة إلى الاغتناء على المدى الطويل، بل أرادت أيضاً أن تصبح ثرية بما يكفي لاكتساب القدرات العسكرية والتكنولوجية اللازمة لانتزاع الهيمنة الإقليمية من الولايات المتحدة في شرق آسيا. لم تنضمّ الصين إلى هذا النظام للحفاظ عليه إذاً بل لإضعافه من الداخل.نجحت تلك الاستراتيجية! بدأت الصين تقترب سريعاً من الولايات المتحدة على جميع مستويات القوة. في عام 2014، أعلن صندوق النقد الدولي أن الصين تجاوزت الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم بعد قياس تعادل القوة الشرائية. وبناءً على سعر صرف السوق، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني اليوم حوالي 70 في المئة من الناتج الأميركي. وفيما تتابع الصين تعافيها السريع من التراجع الاقتصادي المرتبط بفيروس كورونا، من المتوقع أن تتجاوز الولايات المتحدة وتصبح أول اقتصاد في العالم على جميع المستويات قبل انتهاء هذا العقد. الوضع مشابه على المستوى العسكري، ففي عام 2015، ذكرت دراسة أجرتها مؤسسة "راند" بعنوان "بطاقة الأداء العسكري بين الولايات المتحدة والصين" أن الفجوة بين القوة العسكرية الأميركية والصينية في شرق آسيا بدأت تتلاشى سريعاً. ويواجه الأسطول الأميركي والقواعد الأميركية في المنطقة اليوم تهديدات ناجمة عن تحسّن القدرات الصينية. وقد عبّر المشرفون على الدراسة عن دهشتهم بهذا التحول وأضافوا: "تُعتبر سرعة التغيير صادمة حتى بالنسبة إلى المشاركين في هذا التقرير ومن يتعقبون التطورات في الوضع العسكري الآسيوي بوتيرة مستمرة".ولم يعد صانعو السياسة الأميركية ينظرون إلى الخصومة الأميركية الصينية كمنافسة تقليدية بين القوى العظمى بل إنها أقرب إلى صراع بين الديمقراطية والشيوعية. في شهر يوليو الماضي، ألقى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خطاباً يهدف بشكلٍ أساسي إلى وضع العدائية الأميركية الصينية في إطار إيديولوجي، فقال: "يجب ألا ننسى أن نظام الحزب الشيوعي الصيني هو نظام ماركسي لينيني".يهدف هذا الخطاب في الأساس إلى التمهيد لمرحلة أكثر احتداماً من الخلاف الأميركي الصيني من خلال استرجاع المصطلحات المستعملة لوصف الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، على غرار "إمبراطورية الشر"، ما يعني تجريد الحكومة الصينية من شرعيتها بنظر الرأي العام الأميركي وتصوير الصين كلاعبة سيئة في مجال السياسة الدولية.لم يعد مؤيدو استعمال القوة، من أمثال بومبيو، ينظرون وحدهم إلى الصين من منظور ايديولوجي. بل اقتنعت مجموعة واسعة من الشخصيات السياسية في واشنطن بأن التهديد الحقيقي على الولايات المتحدة لا يشتق من تنامي القوة العسكرية والاقتصادية الصينية بل إصرار بكين على تحدي النموذج الأميركي للتطور السياسي والاقتصادي. في هذا السياق، كتب كيرت كامبيل وجايك ساليفان في صحيفة "فورين أفيرز" في عام 2019: "قد تطرح الصين في نهاية المطاف تحدياً ايديولوجياً يفوق ما فعله الاتحاد السوفياتي يوماً. عند وصولها إلى مصاف القوى العظمى، سيزيد الانجذاب نحو النظام الاستبدادي".هذا التحول الايديولوجي في السياسة الأميركية تجاه الصين ليس حكيماً، فهو يخلق أجواءً متوترة في واشنطن ويجعل الحرب أقرب إلى الواقع. من الأفضل أن تحذف الولايات المتحدة عامل الإيديولوجيا من المعادلة إذاً وتضع علاقتها مع الصين في إطار الخصومة التقليدية بين القوى العظمى، حيث تهدف الدبلوماسية إلى السيطرة على المنافسة عبر التسوية والمصالحة والبحث عن قواسم مشتركة. في المقابل، ترتكز المنافسات الآيديولوجية بطبيعتها على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب". إذا كان الخصم شريراً، تصبح التسوية (أو التفاوض بحد ذاته) شكلاً من الاسترضاء.مخاطر في الأفق
اليوم، تشهد العلاقات الأميركية الصينية تدهوراً هائلاً. أصبحت الروابط الاقتصادية بين البلدين متخبطة بسبب الحرب التجارية التي أطلقتها إدارة ترامب، وتهدف السياسة التكنولوجية الأميركية إلى تعطيل عمل شركات صينية مثل "هواوي". ويسهل أن نستنتج أن أي عدد من نقاط الاشتعال قد يطلق حرباً خلال السنوات المقبلة. وقد تنجر الولايات المتحدة والصين إلى الأحداث في شبه الجزيرة الكورية، وسبق وأدت المناورات العسكرية من البلدَين إلى زيادة التوتر في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. كذلك، تتحدى واشنطن المفهوم القديم حول مكانة تايوان عبر الاقتراب من الاعتراف باستقلال الجزيرة عن الصين والتكلم علناً عن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان. في غضون ذلك، ردّت الولايات المتحدة بقوة على قمع بكين لمسلمي الإيغور في الصين وفَرْضِها قانوناً أمنياً جديداً وصارماً على هونغ كونغ. في الحالتَين معاً، أدان مسؤولون أميركيون من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي الصين وفرض الكونغرس وإدارة ترامب عقوبات انتقامية.لكن رغم هذه الحملة المضادة، من المستبعد أن تتخلى الصين عن هدفها بالتحول إلى قوة مُهيمِنة في شرق آسيا. ستتابع بكين الضغط على الولايات المتحدة إلى أن تتعامل معها كقوة عظمى مساوية لها. لتجنب الحرب تزامناً مع إرضاء رغبات الصين، ستضطر الولايات المتحدة لسحب ضماناتها الأمنية من تايوان والاعتراف بمطالب بكين في الجزيرة. كذلك، يجب أن تتقبل واشنطن حقيقة مفادها أن قِيَمها الليبرالية ليست عالمية، وبالتالي يُفترض أن توقف التدخل في شؤون الصين الداخلية عبر إدانة سياسات بكين في هونغ كونغ و"شينجيانغ" وإصدار دعوات مبطّنة لتغيير النظام.يتراجع احتمال أن تتخذ الولايات المتحدة تلك الخطوات لأن هذا التوجه يعني الاعتراف بنهاية الهيمنة الأميركية. هذا ما يجعل خيار الحرب الساخنة أقرب إلى الواقع. على عكس ما حصل خلال الحرب الباردة، حين تقبّلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي نطاق نفوذ كل طرف منهما في أوروبا عموماً، تحمل واشنطن وبكين اليوم وجهات نظر مختلفة جداً حول الجهة الأحق بفرض هيمنتها في بحر الصين الشرقي والجنوبي وتايوان.كذلك، من المستبعد أن يتمكن الرأي العام الأميركي من كبح هذا المسار المحتمل نحو الحرب. تاريخياً، لم تكن السياسة الخارجية الأميركية تتجاوب مع الرأي العام ولا يعرف معظم الناخبين الأميركيين الكثير عن التزامات بلادهم العسكرية في الخارج وتداعياتها. في حال وقوع هجوم صيني، لا سيما ضد تايوان، سيؤدي تأجيج حس الوطنية وتلاعب الحكومة الأميركية بالرأي العام إلى إبطال مفعول المعارضة العامة للحرب. في الوقت نفسه، سيدين القادة الأميركيون بكين باعتبارها دولة دكتاتورية شيوعية وحشية وعدائية وتوسعية تهدف إلى قمع الشعب المُحِبّ للحرية في الأراضي الديمقراطية. كذلك، سيسمع الرأي العام الأميركي أن الحرب كانت ضرورية لحماية القيم الأميركية العالمية. وكما حصل خلال الحرب العالمية الأولى وحربَي فيتنام والعراق، ستسود خيبة أمل عامة إذا انتهت الحرب بطريقة سيئة. لكن سيكون الأوان قد فات في تلك المرحلة.خلال السنوات القليلة الماضية ذكر عدد من المراقبين، بما في ذلك كبار محللي الشؤون الصينية في الولايات المتحدة مثل روبرت كايغان وإيفان أوسنوس، أن الولايات المتحدة والصين ربما تتجهان عن غير قصد إلى خوض الحرب، كما حصل مع المملكة المتحدة وألمانيا في عام 1914.المسار المؤدي إلى الصراع
رغم استمرار المسار المؤدي إلى الصراع، يراقب الجميع اليوم الوضع بحذر. ورغم إقدام مؤيدي المواجهات المتزايدة على رفع صوتهم بكل صراحة ووضوح، بقيت الأصوات المعارِضة لتلك السياسات صامتة على نحو مفاجئ في أوساط السياسة الخارجية.يتعلق أحد الأسباب على الأرجح بتحوّل جزء كبير من المعسكر المدافِع عن سياسات الانضباط الذاتي وضبط النفس الاستراتيجي في مجال السياسة الخارجية الأميركية إلى اتخاذ مواقف أكثر عدائية بكثير تجاه الصين في السنوات الأخيرة. ومن بين الخبراء والمحللين الذين يؤيدون عموماً فك ارتباط الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط (أو حتى أوروبا برأي البعض)، يَقِلّ عدد الداعمين لهذا النوع من التعديلات الاستراتيجية في شرق آسيا.اليوم يذهب البعض في هذا المعسكر، لا سيما العالِم الواقعي المرموق جون ميرشايمر، إلى حد المطالبة بأن تعارض الولايات المتحدة مساعي الصين لفرض الهيمنة الإقليمية. لكن ترتكز هذه الفكرة على كابوس جيوسياسي شكّل هوساً حقيقياً للمفكر الاستراتيجي البريطاني السير هالفورد ماكيندر في بداية القرن العشرين: إذا سيطرت قوة واحدة على قلب أوراسيا، قد تتمكن من فرض هيمنتها على العالم. لكن تحمل فكرة ماكيندر نقاط ضعف متعددة، فهي نتاج حقبة تساوي بين القوة العسكرية والعدد السكاني وإنتاج الفحم والفولاذ. كانت الادعاءات حول التهديدات في أوراسيا مبالغاً فيها في أيام ماكيندر ولا تزال كذلك. باختصار، لن تكون الهيمنة الإقليمية الصينية مسألة تستحق خوض الحرب من أجلها.لا أحد يعرف بعد مدى استعداد الولايات المتحدة للتنازل عن هيمنتها في الشرق الأوسط سلمياً والاعتراف بمكانة الصين كقوة عظمى مساوية لها. لكن إذا لم تتخذ واشنطن هذه الخطوة، لا مفر من أن تُسارع نحو خوض حربٍ قد تكون عواقبها أسوأ من الكوارث العسكرية التي شهدتها فيتنام وأفغانستان والعراق.
*كريستوفر لاين