بين رئيس وآخر، زعيم وآخر، مسؤول وآخر، حبيب وآخر، آخر وآخر يبقى الانتظار، ربما هو طبع البشر أن يتأملوا خيراً أو أن يخافوا شراً من القادم، لكنهم في مجمل الأوقات يبحثون عمن يطمئنهم أو يخفف عنهم أو حتى يجعلهم يتخطون مرحلة صعبة وكثيرا ما يكون خيارهم الوحيد هو الانتظار! العالم اليوم في تلك اللحظة أي لحظة الترقب والانتظار، في البدء كان الخوف من الفيروس وبعدها أصبح القلق من اللقاح، وما بينهما مرت مياه كثيرة تحت ذاك الجسر وحده، في حين العالم يتحول حوله منذ سنين بل ربما عقود.
وحتى لا يكون الفيروس هو مفرّق اللذات ومفسد عام بأكمله، أي 2020 الذي اتفق البشر من كل حدب وصوب على أنه عام يريدون له الرحيل سريعا وأن يُمحى من دفاتر أو كتب حياتهم، الفيروس ليس وحده خالق لحظة الانتظار الطويلة، بل كثيرون غيره ساهموا في خلق تلك الفترة الممتدة، وكل له سببه؛ بعضهم ينتظر الرئيس الأميركي القادم، بل ربما معظمهم وهم يجمعون ويطرحون ويخمنون ويحللون، ثم يلجأون إلى المنجمين الذين تربعوا على عرش اللحظة الآن، وآخرون يترقبون بشديد من القلق أو الانبهار، ما يحدث من تقاربات و«صداقات» جديدة بل «غزل»! وما بينهما يبقى هو، أي الموطن في منطقتنا، يحسب حياته بعدد الدقائق والساعات التي يقف فيها عند المخبز أو محطة البنزين أو أمام مكتب المسؤول «المستجد» على الوظيفة، قليل الخبرة كثير الاستعلاء ووهم المعرفة! وآخر يراكم الملايين، بل يصفّها طبقات فوق بعض، وكلما كثرت الأصفار أمام أرقام حساباتهم قالوا «هل من مزيد»، أو رفعوا شعارهم الممجوج «هذا من فضل ربي». وما بينهما انقرضت الطبقة الوسطى تدريجيا كحيوانات الباندا، وقبلها الديناصورات، حتى تصور أحدهم أن متاحف عواصمنا ستضيف قسماً خاصاً بين التحف والآثار يتناول تفاصيل ما كان يعرف بالطبقة الوسطى التي كانت يوما ميزان أي مجتمع وصمام أمانه. الانتظار كان يقال إنه يميت اللحظة أو ربما للبعض يحييها، فبعضهم ينتظر الحياة وآخرون في ترقب للموت، وما بينهما مزيد من الانتظار، زمان كان الانتظار ربما لحب قادم، لعشق قد يعود، لصديقة تعود بعد غياب، لمصالحة بعد خصام أو خلاف، لاكتشاف ما كان أمام الأعين ولم تره، لمكالمة لم تأت، ورسالة لم تكتب أو محيت قبل أن ترسل، لفرحة أو فرح! كان الانتظار كل ذلك حتى كتب الرائع محمود درويش قصيدته الشهيرة وعنونها «في الانتظار» وقال: في الانتظار، يُصيبُني هوس برصدالاحتمالات الكثيرة: رُبَّما نَسِيَتْ حقيبتهاالصغيرة في القطار، فضاع عنوانيوضاع الهاتف المحمول، فانقطعت شهيتهاوقالت: لا نصيب له من المطر الخفيفوربما انشغلت بأمر طارئٍ أو رحلةٍنحو الجنوب كي تزور الشمس، واتَّصَلَتْولكن لم تجدني في الصباح، فقدخرجت لأشتري غاردينيا لمسائنا وزجاجتينِمن النبيذوربما اختلفت مع الزوجِ القديم علىشؤون الذكريات، فأقسمت ألا ترىرجلاً يُهدِّدُها بصُنع الذكرياتويزيد في خيالاته حتى يصل إلى: وربَّما ماتَت،فإن الموت يعشق فجأة، مثلي،وإن الموتَ، مثلي، لا يحبُّ الانتظارأما الآن فالانتظار هو من ترامب إلى بايدن، ومن «كورونا» إلى لقاحه، ومن الإغلاق الكلي أو الجزئي وما بينهما، إلى هل نفتح محلات الحلاقة أم لا أم البارات والحانات والمطاعم؟ والانتظار هو أن الأعياد قادمة فنشتري الهدية عبر النت أم ننتظر حتى يقرروا أن الموت قادم، ربما بحمى أو ربما بأمعاء خاوية حتى الجوع! الانتظار بين اقتصادات تموت أو تدفن حية وأخرى تعيش على موت الآخرين!! بين من يحارب ليبقى حتى ما بعد اللقاح، فربما ينجو من المجزرة الاقتصادية أو آخر ينتظر هو الآخر أيضا أن تفتح الحدود أو المصارف أبوابها أو ترضى بأن تعطي المودعين أموالهم بعد طول انتظار!! انتظار هو واللحظة تمتد وتطول، والجميع يداعب أجهزته التي أصبحت الصديق، والرفيق، والحبيب والزوج والمسلي أو الأراجوز حتى يأتي «الفرج» أو ربما نعتاد الانتظار حتى نمرض به أو منه.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
على موعد مع الانتظار
30-11-2020