إذا ما قُدر لقارئ مهتم أن يقف أمام إحدى صور الكاتب ياسوناري كاواباتا «Yasunari Kawabata 1972-1899»، وهو أول أديب ياباني حاز جائزة نوبل للآداب عام 1968، فإن عينيّ الرجل تقولان شيئاً يكاد يكون مدخلاً مهماً لقراءة نصوصه النثرية، الروائية والقصصية. عينا الرجل اللتان تُركزان في شيء ما، تلفتان النظر إلى جديتهما، مليئتان بحزن راعف، وربما كان هذا الحزن هو الأكثر حضوراً في الصورة.ياسوناري، الطفل الذي فقد والديه تباعاً ولم يتجاوز السادسة من عمره، هو ذات الكاتب الذي خطّ رواية "الجميلات النائمات"، والتي كانت، ولم تزل، عملاً يتمنى أي روائي في العالم الوصول لعظمته، ويكفي أي روائي كتابة عمل واحد عظيم ليعيش خالداً!
ياسوناري، الذي توصف أعماله بشيء من الغموض، هو ذاك الطفل الذي عاش مع جده حتى السادسة عشرة، وبعدها انطلق من بيت العائلة إلى السكن الجامعي، وإلى فضاء الحياة الأرحب، لكن ضياع ومعاناة وخيبات "الطفل" ياسوناري، ستبقى الموضوع الأثير للكاتب ياسوناري، وستبقى بأشكال مختلفة، يتزيا بها أبطال أعماله الروائية، نساء ورجالا.في عمله "يومياتي الحزينة"، الصادر عن دار صوفيا في الكويت، بترجمة علي زين، يُقدم كاواباتا بوحاً حميماً لمأساته في فقد والديه، وفي عدم قدرته على استحضار شيء من حياته معهما عبر التذكّر، وبالتالي ظل ملتصقا بهما "اسماً"، وظل لسنوات طويلة يحاول شحذ مشاعره، لمعايشة ما يمكن أن يشعر به لو أنه عاش حقيقة بقربهما، وكيف يمكن لعلاقته بهما أن تتشكَّل، وفي هذه اللحظة المتخيلة فقط يمكنه ساعتها أن يتكلم ويشعر بما يشعر به الطفل العادي الذي عاش مع أمه وأبيه!في "يومياتي الحزينة" وفي قصة "اليوميات" يقدِّم ياسوناري مذكراته التي خطّها وهو في الرابعة عشرة أو السادسة عشرة، للأيام الأخيرة من حياة جده، ومعاناة الجد من العمى وحاجته الملحّة للتواصل مع كل من حفيده ياسوناري وإحدى الشغالات "أوميو"، لتلبية حاجاته من الطعام والشراب، ومساعدته على التبوّل. وبطريقة سهلة وآسرة يأخذ ياسوناري القارئ لعيش لحظات جد صادقة وجد حميمة، وجد قادرة على التأثير فيه! ويدخل الكاتب المبدع إلى لعبة الكتابة والتخييل، باعترافه أنه كتب تلك اليوميات في حين مرض جده، لكنه نسيها تماما، ولحين بحثه بين مخلفات بيت عمه قبل بيعه، وعثوره على حقيبة قديمة وبداخلها كتاباته عن أيام جده الأخيرة. وهكذا يعترف الكاتب بأن مشاعره وأحاسيسه في لحظته الآنية، تختلف تماماً عمَّا جاء في تلك الوريقات، وأنه يصعب عليه تذكر ما جاء فيها: "كانت هذه نهاية اليوميات. بعد عشرة أعوام من كتابتي لها، هذا ما وجدته في مخزن عمي (شيماكي)، يوميات كانت مكتوبة في قرابة ثلاثين ورقة من أوراق المدرسة الإعدادية، ولعل هذا كان كل ما كتبته. كان الأمر الأشد غرابة بالنسبة لي، هو أنني عندما وجدت هذه اليوميات في مخزن عمي، لم تكن لدي أي ذكريات في داخلي عن هذه الحياة اليومية التي وصفتها في اليوميات، فأين ذهبت تلك الأيام إذا لم أكن أتذكرها؟ وإلى أين اختفت؟" ص58. ومؤكد أن هذه الأسئلة هي لب اليوميات، وهي لا تخص ياسوناري وحده، بل تخص الإنسان، حيثما كان، وفي كل زمان! فكيف تختفي أيام وتسقط من خزانة الذاكرة البشرية للإنسان، وكيف يمكن للكلمة أن تمتلك حياة لا يمتلكها الإنسان نفسه؟ وكيف يمكن لأي شخص منا أن يواجه جملة أو صورة فتقول عنه ما يعجز هو عن قوله؟ يوميات ياسوناري كاواباتا، هي يومياتنا أجمع، وهي معاناتنا أجمع، وهي ضياع لحظات كثيرة من أعمارنا عشناها بحلوها ومرها، وما لبثت أن سقطت من دفاتر أيامنا!استحق كاواباتا "نوبل"، لكنها كانت أعجز بكثير من أن تداوي يتمه الإنساني، وربما لهذا أقدم على الانتحار!
توابل - ثقافات
يوميات كاواباتا... يومياتنا!
02-12-2020