على نحو مفاجئ، أصبح للتعافي الاقتصادي الذي يقوده اللقاح حُـجة معقولة، فقد قَـدَّمَ لنا العلم الحديث بكل تأكيد واحدة من أعظم المعجزات في حياتي الطويلة، وكما دفعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19) الاقتصاد العالمي إلى أشد وأعمق حالة ركود على الإطلاق، بات من المحتمل الآن أن نشهد تطورا متماثلا إلى الأفضل.أتمنى لو كان الأمر بهذه السهولة، فمع استمرار تفشي جائحة كوفيد19، وخروج معدلات الإصابة بالعدوى والاحتجاز في المستشفيات والوفيات عن نطاق السيطرة (مرة أخرى)، انقلبت مخاطر الأجل القريب للنشاط الاقتصادي حتما في الاتجاه السلبي في الولايات المتحدة وأوروبا، وبات التأثير المترتب على اقتران الإجهاد الناجم عن الجائحة بتسييس ممارسات الصحة العامة واضحا جليا في اللحظة ذاتها التي شهدت وصول الموجة الثانية المتوقعة من جائحة كوفيد19.
من المؤسف أن هذا يتناسب مع سيناريو الركود المزدوج المخيف الذي حذرت منه مؤخرا، والخلاصة هنا تستحق التكرار: ففي ثماني دورات الأعمال الإحدى عشرة منذ الحرب العالمية الثانية، أعقب التعافي الاقتصادي الواضح في الولايات المتحدة انتكاسات، وتعكس هذه الانتكاسات شرطين: استمرار الضعف الناتج عن الركود ذاته واحتمال حدوث هزات تابعة، ومن المؤسف أن الشرطين مستوفيان في حالتنا هذه.من الواضح أن استمرار الضعف غير قابل للنقاش، فعلى الرغم من الارتداد القياسي على أساس سنوي بنسبة 33 في المئة في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الثالث من هذا العام، ظل الاقتصاد الأميركي أقل من ذروته السابقة في الربع الأخير من عام 2019 بنحو 3.5 في المئة، وباستثناء الانخفاض بنسبة 4 في المئة من الذروة إلى القاع خلال الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، تعادل الفجوة الحالية بنسبة 3.5 في المئة تلك المسجلة في أعماق كل ركود آخر في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.من المضحك بالتالي أن نتحدث عن اقتصاد أميركي يتعافى بالفعل، لم يكن الارتداد في الربع الثاني سوى نفس أخير، انتعاش ميكانيكي في فترة ما بعد الإغلاق في أعقاب أشد انحدار على الإطلاق، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن التعافي التراكمي العضوي لاقتصاد يشهد تحسنا حقيقيا، فلا تزال الولايات المتحدة عالقة في بـئـر عميقة.ما عليك إلا أن تسأل المستهلكين الأميركيين، الذين مثلوا لفترة طويلة الحصة المهيمنة من الطلب الكلي في الولايات المتحدة بنحو 68 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد الانخفاض غير المسبوق بنسبة 18 في المئة من يناير إلى أبريل، استعاد إجمالي الإنفاق الاستهلاكي منذ ذلك الحين نحو 85 في المئة من خسائره (بالقيمة الحقيقية)، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل.تركز الانتعاش في استهلاك السلع المعمرة مثل السيارات، والأثاث، والأجهزة المنزلية، بالإضافة إلى بنود غير معمرة مثل الطعام والملابس والوقود والمستحضرات الصيدلانية التي عوضت وزيادة عن الخسائر خلال الانخفاض الناجم عن الإغلاق، وفي شهر سبتمبر، كان استهلاك السلع بالقيمة الحقيقية أعلى بنحو 7.6 في المئة من أعلى مستوى بلغه قبل الجائحة في يناير 2020. استفاد هذا الارتداد بشكل كبير من الزيادة الضخمة في الشراء عبر الإنترنت من قِـبَـل المستهلكين الملازمين لمساكنهم، مع ارتفاع التجارة الإلكترونية من 11.3 في المئة من إجمالي مبيعات التجزئة في الربع الأخير من عام 2019 إلى 16.1 في المئة في الربع الثاني من عام 2020.لكن استهلاك الخدمات، الذي يشكل أكثر من 61 في المئة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة، مسألة مختلفة تماما، فقد شكلت الخدمات 72 في المئة كاملة من الانهيار في إجمالي الإنفاق الاستهلاكي من يناير إلى أبريل، وعلى الرغم من انتعاش الخدمات جزئيا منذ ذلك الحين، فإنها لم تسترد سوى 64 في المئة فقط من الخسائر التي تكبدتها في وقت سابق من هذا العام بسبب الإغلاق.مع استمرار تفشي جائحة كوفيد19، يظل المستهلكون الأميركيون الضعفاء مترددين بشكل مفهوم في العودة إلى المشاركة في التفاعل الشخصي اللازم لإدارة أنشطة الخدمات وجها لوجه مثل تناول الطعام في المطاعم، والتسوق الشخصي، والسفر، والإقامة في الفنادق، والترفيه وأنشطة الاستجمام. تمثل هذه الخدمات مجتمعة ما يقرب من 20 في المئة من إجمالي الإنفاق على الخدمات المنزلية.يقودنا هذا التخوف المفهوم من التفاعلات الشخصية في خضم الجائحة إلى المكون الثاني للركود المزدوج: الهزات التابعة. مع الارتفاع المتسارع الحالي في حالات الإصابة بعدوى كوفيد19، عادت عمليات الإغلاق، لكنها تستهدف التقليص الجزئي للأنشطة التي تمارس وجها لوجه ونحن نقترب من موسم العطلات الشديد الأهمية، وعلى وجه التحديد، في اللحظة حيث يتوقع التقويم الاقتصادي عادة ارتفاعا هائلا في النشاط، ترتفع احتمالات خيبة الرجاء الكبرى المعدلة موسميا.يفرض هذا مخاطر حقيقة على سوق العمل الأميركية التي لا تزال مجهدة. صحيح أن معدل البطالة الإجمالي انخفض بشكل حاد من 14.7 في المئة في أبريل إلى 6.9 في المئة في أكتوبر، لكنه يظل في الأساس يعادل ضعف المستوى الذي بلغه قبل كوفيد19 (3.5 في المئة). وفي ظل المطالبات الأسبوعية بالتأمين ضد البطالة، التي بدأت ترتفع ببطء في أوائل شهر نوفمبر مع فرض حرض التجول والعودة إلى تدابير أشبه بالإغلاق الكامل، فضلا عن فشل الكونغرس الأميركي المختل في الاتفاق على حزمة إغاثة أخرى، يتنامى خطر تجدد الضعف في إجمالي تشغيل العمالة.الواقع أن الأخبار حول اللقاحات غير عادية حقا، فعلى الرغم من صعوبة لوجستيات الإنتاج والتوزيع، في أقل تقدير، هناك سبب وجيه يجعلنا نأمل في أن تكون نهاية جائحة كوفيد19 قريبة في الأفق الآن، لكن التأثير على الاقتصاد لن يكون فوريا، لأن التطعيم من غير المرجح أن يؤدي إلى ما يسمى مناعة القطيع حتى منتصف عام 2021 في أقرب تقدير.ما الذي قد يحدث إذاً بين الحين وذلك الموعد؟ في ظل اقتصاد أميركي لا يزال ضعيفا وتحت رحمة هزات تابعة متوقعة، تصبح الحجة لاحتمالات حدوث انتكاسة، أو ركود مزدوج، قبل منتصف عام 2021، أكثر إقناعا.في إعادة صياغة لعبارة تشارلز ديكنز الشهيرة «هذه أفضل الأوقات وأشدها سوءا»، ففي حين تحتفل الأسواق المالية بالطفرة القادمة التي يقودها اللقاح، يدفعنا التقاء الهزات التابعة المرتبطة بالجائحة مع الصدمات السياسية إلى مستنقع الضعف الاقتصادي الشديد. من منظور ديكنز، لكي نصل إلى «ربيع الأمل»، يتعين علينا أولا أن نتحمل «شتاء اليأس».* ستيفن س. روتش*عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ومؤلف كتاب «علاقة غير متوازنة: الاتكالية المتبادلة بين أميركا والصين».«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
قصة اقتصادين
02-12-2020