تصفية «دبنهامز»... إنها ضريبة إهمال الأبحاث
• لحقت بـ«تويز آر أص» و«سيرز» اللتين تخلفتا عن ركب التجارة الإلكترونية
• شركات النفط التقليدية باتت تواكب الزمن بالاستثمار في قطاعات الطاقة النظيفة
نحن في زمن استُبدلت فيه قاعات الاجتماعات التقليدية بمنصة «zoom»، ودخلت «نتفليكس» منافساً لصالات السينما التقليدية، وتأثرت أعمال شركات البريد بنمو التراسل الإلكتروني «e-mail»، وبات الـ «iCloud» يقوم مقام الطوابق المتعددة من الأرشيف.
يأتي إعلان سلسلة المتاجر البريطانية الشهيرة "دبنهامز" عن بدء عمليات التصفية، بعد 240 عاماً على تأسيسها، بعد أن تعثرت محاولات إنقاذها من الديون البالغة 720 مليون جنيه استرليني، كنموذج جديد على أن عمليات إفلاس وتصفية الشركات الكبرى في عالم اليوم لم تعد تأتي كما السابق نتيجة لفضائح محاسبية ومالية، كما حدث في مطلع الألفية مع انهيار عملاق الطاقة الأميركي "إنرون"، أو بسبب أزمة مالية خانقة كأزمة عام 2008 التي أفضت الى إفلاس بنك ضخم مثل ليمان براذرز، أو بسبب سياسات استثمارية عالية المخاطر كما حدث مع شركة إم إف غلوبال، بل ايضا يمكن ان تكون عملية الافلاس نتيجة لإهمال الشركات لنموذج العمل الجديد في السوق، وضعف الاستثمار في قطاع الأبحاث والدراسات، لاسيما ذاك التحدي المتعاظم، حتى قبل جائحة كورونا، المتمثل في قدرات شركات التجزئة التقليدية في ولوج قطاعات التجارة الالكترونية لمواكبة خيارات المستهلكين والزبائن.ولا يعد إعلان تصفية "دبنهامز" حالة فريدة في عالم تجارة التجزئة، اذ انشغل العالم قبل عامين بإفلاس شركة Toys “R” Us (تويز آر أص) صاحبة أكبر سلسلة متاجر لألعاب الأطفال، بعد فشلها في التوصل إلى اتفاق للهيكلة مع المقرضين، بالتوازي مع اعلان افلاس شركة سيرز، وهي أكبر شركات العالم التي تعتمد البيع عبر "الكاتالوغ"، فضلاً عن التراجعات الحادة في نصيب شركات مهمة للجوال مثل نوكيا وبلاك بيري، لمحدودية تعاملهما مع مسألة تطور الهواتف الذكية واختيارات المستهلكين، مما يعطي مجموعة من الدروس حول طبيعة أعمال الشركات الكبرى خلال المستقبل القريب، خصوصا بعد جائحة كورونا، أهمها أن إهمال الشركات لقطاع الأبحاث والتطوير في مجال السوق والمستهلكين يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية لا تقل خطورة عن التدليس في البيانات المالية أو التعرض للانكشاف نتيجة لأزمة مالية أو اقتصادية.
نمو التجارة الإلكترونية
وحسب بيانات لشركة أبحاث الاسواق الالمانية "ستاتيستا" فإن حجم التجارة الإلكترونية العالمية بلغ في عام 2019 نحو 4 تريليونات دولار، أي ما يعادل 16 ضعف قيمته عام 2010، وأنه كلما ارتفعت القوة الشرائية في بلد ما زادت حصة الاعتماد على التجارة الإلكترونية، مقارنة بالشراء التقليدي من المتاجر، لذلك لا تقل بين من المتسوقين عبر شبكات الإنترنت من سكان الدول المتقدمة اقتصادياً عن 60 في المئة، يليهم المستهلكون من الدول ذات الاقتصادات المتوسطة، بحدود 35 في المئة، في حين يمثل المتسوقون من الدول الأكثر فقراً في العالم نسبة 2 في المئة فقط، وتهيمن الصين وأميركا على عالم التجارة الإلكترونية، عبر شركات ضخمة مثل "علي بابا" و«علي إكسبرس" و«أمازون"، و«إيباي".ولعله من المفيد القول إن التجارة الالكترونية لا ترتبط فقط بمسألة توصيل البضائع، بل هي سوق يسهّل على الشركات القيام بأبحاث تحديد خيارات المستهلكين وتحليل المبيعات، وبناء بنية تحتية من المعلومات للزبائن، وتطوير سلاسل الإمداد اللوجستية وإدارة المخزون والاهتمام بالوقت، وإعادة ترتيب المنتجات وفقا لسرعة تسويقها، وهذه كلها مهن مطلوبة ستلقي بظلالها على اسواق العمل والتعليم في العالم كله، خلال السنوات القليلة المقبلة.تغير مفاهيم
في عالم اليوم، تغيرت مفاهيم التجارة والاستثمار بشكل حاد وعميق، وبات الحديث عن الاساليب التقليدية في "البزنس" مختلفاً بشكل جوهري عن أي أعمال سابقة في الشكل والمفهوم، فأزمة كورونا استبدلت قاعات الاجتماعات التقليدية بمنصة "zoom"، وقبل ذلك دخلت نتفليكس منافساً لصالات السينما التقليدية، وتأثرت اعمال شركات البريد مع نمو التراسل الالكتروني "e-mail"، وبات الـ "iCloud" يقوم بمقام الطوابق المتعددة من الأرشيف، وحتى المطاعم والمقاهي بات الناس يأكلون منها وهم لا يعرفونها، بسبب الانتشار القوي لتطبيقات التوصيل إلى المنزل.ولعل هذا التغير يفسر لنا سبب اهتمام الشركات الكبرى حول العالم بالإنفاق على الابحاث في قطاعات السوق وخيارات المستهلكين، حتى وصل اجماليها في عام 2018 أكثر من 782 مليار دولار بنمو 5 أضعاف عما كانت عليه قبلها بـ10 سنوات، وتصدرت الإنفاق فيها شركة أمازون بـ 22.6 مليار دولار، ثم "غوغل" التي استثمرت 16.2 مليار دولار على البحث العلمي والتطوير، تلتها شركة السيارات الألمانية فولكسفاغن بعدما انفقت 15.8 مليار دولار، خصوصا على الاستثمار في أبحاث السيارات الكهربائية وتطوير المتطلبات البيئية.مرونة مطلوبة
لا يختلف اثنان على أن العالم يتطور بسرعة، وأن هذا التطور يتطلب من الشركات الكبرى في العالم قدرا عاليا من المرونة في التعامل مع المتغيرات، والقدرة على صناعة نماذج جديدة ترضي متطلبات الاسواق والمستهلكين، وإلا فإن مصير "دبنهامز" سيتكرر في أكثر من شركة أخرى، ولعل هذا ما يشرح لنا جانبا من اهتمام شركات النفط التقليدية الكبرى في العالم بالاستثمار الملياري في قطاعات الطاقة النظيفة، خلال السنوات المقبلة... فمن لا يواكب التطور حتما سيختفي.
الشركات الكبرى أنفقت على الأبحاث 782 مليار دولار في 2018 بنمو 5 أضعاف عما كانت عليه قبلها بـ 10 سنوات