عندما زرتُ كوبا قبل سنوات، وتعرَّفت على مدنها وأهلها، والتقيت شخصيات سياسية ومثقفين فيها، كانت صور غيفارا وفيدل كاسترو لا تفارقني، أينما ذهبت تجد "تشي"، هذا الرمز بزيه الشهير، مرتدياً "البيريه" والنجمة الحمراء المميزة وشعره المتدلي على كتفيه.لم تتح لي زيارة ابنته ولا بيته، وكنت أتحيَّن الفرصة للالتقاء بها والتحدث إليها، لأستمع منها عن "سيرة المناضل".
شاءت الصدف أن يكتب السفير اللبناني جان معكرون مقالة له عن قصة واقعية سمعها من أحد الكوبيين من أصل لبناني عندما كان سفيراً لبلاده في هافانا.
درس لمن يستغل منصبه
ينقل البروفيسور المؤرخ ريكاردو سلمان، أنه خلال تولي تشي غيفارا وزارة الصناعة زار معملاً للبسكويت في مدينة سانتا كلارا، وفيما كان يتفقد العمال، أهدى مدير المعمل أربع علب بسكويت إلى سائقه، كي يضعها في صندوق السيارة، وعندما انتهى من الزيارة أخبره السائق بهدية مدير المعمل، فقام باستدعائه، ليوجه له سؤالاً: "هل تعطي لكل مَن زار المعمل هدية مماثلة"، فأجاب بـ "لا" عندها طلب إعادة العلب إلى المعمل.هذا التصرف يضرب به المثل، لتواضعه ونظافة يديه، والتزامه بالأمانة، وكان درساً لمن يستغل منصبه للحصول على "رشوة" أو "منفعة خاصة"، وما أكثرهم في عالمنا العربي.السفير خلف وابنة غيفارا
في هذا الوقت، زوَّدني السفير الكويتي لدى كوبا السيد محمد فاضل خلف بمجموعة صور وحكايات عن زيارة استطلاعية قام بها الأسبوع الماضي، إلى البيت الشخصي لغيفارا، وكانت فرحتي غامرة، وشعرت كم أن المناسبة فيها استذكار لرجل ملأ الدنيا ولم يغب عنها يوماً. يقول السفير خلف إن البيت المتواضع جداً تعيش فيه ابنته أليدا غيفارا مارش وأرملته، وفيه مكتبته الخاصة، وما زالوا يحتفظون بالطاولة والكرسي الذي كان يجلس عليه. أمضى السفير خلف ساعات وهو يتجوَّل في أركان المنزل مع ابنة غيفارا، والتقط عدة صور تذكارية أمام السيارة التي كان يستخدمها، وهي من نوع شيفروليه موديل 1956، يُقال إنها صُودرت من "أثرياء" كوبا الهاربين من الثورة. تروي ابنته قصة اغتيال والدها عندما كان في بوليفيا، وتعرض البيت الشيوعي الواحد فيها إلى انقسامات، ولم تكن بعد مهيأة للثورة. في تلك الفترة انقطعت الاتصالات بينه وبين الرفاق الشيوعيين، حتى تمكَّن أحد الفلاحين من التعرف عليه والاستدلال على مكان وجوده، ليتم إبلاغ عملاء للمخابرات المركزية الأميركية، وتنتهي حياته بإطلاق النار على جسده، حيث سقط أرضاً بوشاية من ذاك المزارع البوليفي، ويُدفن هناك في مكان سري لم يفصح عنه؟ وبعد سنوات من حادثة الاغتيال، تمكَّن فريق خاص من الكوبيين ورفاقهم في بوليفيا من العثور على رفاته، وتم نقله إلى مدينة سانتا كلاراً، ودُفن فيها. وتضيف السيدة أليدا في الجلسة التي جمعتها مع السفير خلف، أن والدها لم يكن يستسيغ الأكلات الكوبية، بل يُكثر من أكل لحم الخنزير والفاصوليا السوداء والبطاطا الرمادية، وإن كان مطبخهم متأثراً بالمطبخ الأرجنتيني، وهو الأكثر غنى باللحوم والأسماك.