نادر في أزمان الندرة
رحل عن دنيانا أحد الرجال النماذج الذين أنجبتهم أرض الكويت، وشاركوا بأفعالهم وعطائهم وجهدهم في صناعة أمجاد وطنهم وبناء نسيجه الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي المتين، وكتبوا أبجديات العمل التجاري خاصة، والمجتمعي عامة، في أزمان الندرة والشح، قبل تفجر النفط، وسقوا به عروق الحياة لهذا الوطن الجميل، واستمروا في البذل والإنجاز عبر مراحله التاريخية المتتالية، لتسجل الكويت من خلال إبداعات ومثابرة هؤلاء الرجال، تميزا وتألقا عبر العصور، وتقود مختلف المبادرات في محيط جوارها.رجل شارك في صناعة النموذج الكويتي الفعال قبل النفط، والقائم على منظومة وطنية منتجة ومتكاملة لا تعرف الخمول، أقامت صلب التجارة مع العالم الخارجي عبر أساطيل سفن الغوص والسفر الشراعية التي مخرت عباب الخليج والمحيطات والبحار بسواعد أهل الديرة وبحارتها وحرفييها، وقادتها طلائع تجار البلاد ونواخذتها، وجميعهم جعلوا من تلك البقعة الصغيرة الواقعة شمال غرب الخليج العربي منارة متفردة، ليس بالتجارة فحسب بل بالثقافة والانفتاح الاجتماعي والسياسي.راحلنا الكبير ثابر منذ سنوات صباه الأولى، وهو في الثالثة عشرة من عمره، في بناء تجارة عائلته الكريمة وإدارة أعمالها في الهند ارتباطا بأعمالها في الكويت، ليتابع مثابرته دون كلل بعد عودته إلى بلاده، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ليشارك مع الثلّة الخيّرة من تجار الكويت المؤسسين في بناء مختلف الصروح التجارية والاقتصادية الكبرى قبل الاستقلال وبعده، ليغدوا علما من أعلام الوطن عبر رحلة عمر مديد بلغ الأربعة والتسعين عاما، امتدت بين عامي 1926 و2020، واتكأ فيها على سيرة من العطاء لم تتراخ بل جمعت بين الجهد والإدارة المتميزة في شتى الميادين التجارية والاقتصادية والسياسية والثقافية والإنسانية.
دوّن راحلنا الكبير سيرته ومسيرته وصاغها عام 2012 في مؤلّف بالغ الفائدة أسماه "أصداء الذاكرة"، ضم بين دفتيه تلخيصا لرحلته الطويلة القائمة على التفوق والنجاح والاستقامة الأخلاقية والمهنية والثبات على الحق، ولقد أضفى على شخصي المتواضع شرفا كبيرا حين ذكر في مقدمة كتابه إن "فكرة تسجيله لما مر في حياته العملية تعود بشكل محدد إلى ما تلمسه من ردود أفعال مشجعة تلقاها عقب بث الحوارات التلفزيونية التي سبق أن أجريتها معه في برنامج ذاكرة الوطن"، ولقد تعلّمت دروسا كثيرة وكبيرة من تلك المدرسة الرائدة صاحبة الفكر المستنير والتاريخ الوطني الشامل والحافل، مدرسة جمعت لصاحبها فضائل العلم والثقافة والحصافة، وتلاقي الصوت الخافت بالعقل المتوقد والمبدع الذي أقام صروحا تميزت بالتوهج والنجاح في شتى الميادين، ولم تزده إنجازاته إلا تواضعا ورزانة وتبسطاً وعفافاً.وكان الراحل الكبير قريباً من الجميع، ودودا للصغار ممّن عرفوه وللكبار، ولم تحدّ من تواضعه مكانته الرفيعة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.كان الأثر والحزن على رحيله ثقيلا على أهله ورفاقه ومحبيه، بقدر ما انطوت نفسه الكبيرة على تلك المزايا الخيّرة والحميدة، وسيبقى على الدوام من الرجال النماذج الذين إن ماتوا فإنهم لا يغيبون، كما أنه سيظل رمزا "للرجل النادر في أزمان الندرة".رحمك الله أيها العم الفاضل عبدالعزيز محمد حمود الشايع، أبو حمد، وخالص العزاء لأهلك ومحبيك الذين ستبقى خالداً في ذاكرتهم وذاكرة وطنك الكويت على مدى الدهر، وإلى الله المعاد.