مع أن الانتخابات البرلمانية التي أجريت مطلع هذا الأسبوع وجهت رسالة اعتراض سياسية قوية عبر تغيير نحو 60 في المئة من نواب مجلس الأمة السابق، فإنها لم تفض على ما بدا - حسب ما ورد في طروحاتهم الانتخابية - إلى إحداث أي اختلاف حقيقي في المواقف أو الآليات الخاصة بالملفات المهمة خصوصاً الاقتصادية والتنموية نتيجة لطبيعة النظام الانتخابي الضيق، وصولاً إلى فردية العمل السياسي وغياب الأحزاب ذات البرامج وضمور الكيانات المنظمة.ومع انتهاء الانتخابات تنتظر الكويت هذه الأيام إعلان التشكيل الوزاري الجديد الذي تبدو الآمال تجاهه - بحكم العادة - محدودة في تجاوز معادلات المحاصصة والولاء على حساب الكفاءة وجودة الاختيار، في وقت يحتاج الاقتصاد إلى فريق إدارة للبلاد يتعامل مع مختلف القضايا الحساسة على الصعد المالية والتنموية بطريقة مختلفة عما تم التعامل به سابقاً، لاسيما وسط أوضاع اقتصادية تتجه نحو مزيد من الصعوبة مع تراجع أسعار النفط، بالتوازي مع تصاعد المصروفات في الميزانية بقيادة الإنفاق الجاري "الاستهلاكي" الذي لا يقدم للاقتصاد أي تفضيلات أو مزايا تنموية.
بصيص أمل
ومع أن الحالة العامة في الكويت ليست مشجعة كثيراً على رسم أي صورة تفاؤل واسعة، فإن ثمة بصيص أمل تفرضه الإشارات الإصلاحية الجيدة من "العهد الجديد" في الكويت كالتعيينات الأخيرة في السلطة القضائية، أو رفع يد الديوان الأميري عن الدخول في مشاريع ليست من اختصاصه، إضافة إلى حداثة عهد رئيس الوزراء بمنصبه الجديد، يقابلها الرسالة التي وجهها الكويتيون خلال الاقتراع في انتخابات مجلس الأمة ومفادها رغبتهم في التغيير والإصلاح رغم محدودية المساحة الانتخابية والسياسية المتاحة لهم.بصيص الأمل هذا يستوجب من ناحية تعاوناً حقيقياً بين الحكومة والبرلمان كي لا يدفع الاقتصاد كما هو بالعادة فاتورة التخبط السياسي، فالأمر اليوم يحتاج إلى أكثر من ملفات سياسية مستحقة، كالعفو الشامل أو تعديل النظام الانتخابي، إلى إطلاق مشاريع فنية تتعامل بجدية مع ملفات حساسة ومهمة، كقدرات الدولة على استدامة الرفاه، وجودة الخدمات، ومستقبل النفط، ومدى استحقاق الاستدانة، وكيفية إدارة الدين العام، وتحديد بدائله، وإدارة احتياطيات الدولة، وقوة الدينار، وتحديات سوق العمل، وتعريف الإصلاح الاقتصادي بأبعاده المالية والتنموية، والتفريق ما بين حماية الطبقة المتوسطة وتعزيزها وبين المقترحات الشعبوية التي بقدر ما تستنزف من ثروات البلاد، فإنها لا تحقق للمواطن فائدة حقيقية... وهذه كلها تحتاج إلى تعاون ربما يصعب تحقيقه مالم تأتِ الحكومة بفريق اقتصادي متجانس صاحب برنامج واضح لأنها السلطة التنفيذية المناط بها إدارة البلاد.الحزب الوحيد
ومع قدر من الواقعية بشأن التعاون بين السلطتين، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن دور الحكومة في التنفيذ، وحتى التشريع، بل وأيضاً تحديد مستوى وقوة الرقابة عليها، يتجاوز دور مجلس الأمة نتيجة الاختلال الهيكلي في طبيعة النظام السياسي في الكويت، بالتالي فإن الحكومة هي "الحزب الوحيد والفاعل" بدرجة كبيرة في مجلس الأمة بمختلف القضايا باستثناء القضايا الشعبوية، التي سبق أن تنافست فيها حكومات سابقة مع نظيراتها البرلمانية على حساب مستقبل الاقتصاد ومالية البلاد، وحتى سابقاً في تخريب سلم الرواتب عبر إقرار الكوادر المالية غير العادلة أو في العبث بقوانين التأمينات الاجتماعية على حساب المعادلات الفنية ومستقبل الضمان الاجتماعي للمشتركين والمتقاعدين. لذلك، فإن مدى كفاءة التشكيل الحكومي المرتقب سيعمل على كشف درجة جدية السلطة التنفيذية في التعامل مع الملفات الاقتصادية الساخنة والملحّة.ولذلك فإن التعامل مع الملفات المالية والاقتصادية خلال الفترة القادمة فيه الكثير من التحديات التي لا تحتمل حتى القدر المحدود من التهاون، فما بالك بكثيره، إذ تحتاج الكويت على المدى القصير إجراءات عاجلة لتمويل ميزانياتها وسد العجز القياسي المتوقع الذي يناهز 14 مليار دينار من خلال مبادلات الأصول بالسيولة بين صندوقي الاحتياطي العام واحتياطي الأجيال القادمة ووقف استقطاع حصة صندوق الأجيال القادمة المقدرة بـ 10 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية وأيضاً توريد الأرباح المحتجزة لدى المؤسسات المستقلة إلى المالية العامة وغيرها من الإجراءات وصولاً إلى عمليات إصلاح اقتصادي على المديين المتوسط والطويل تبدأ بتنويع إيرادات الميزانية غير النفطية كالضريبة على أعمال الشركات وإعادة تسعير أراضي وأملاك الدولة ومعالجات لاختلالات الاقتصاد الكبرى كسوق العمل والتركيبة السكانية.ضريبة اقتصادية
ولا شك أن الفشل في الملفات العاجلة والآجلة أعلاه ستكون له ضريبة اقتصادية لا تتحملها مالية الدولة الحالية ولا المستقبلية، وستأتي غالباً على شكل قوانين شعبوية فتكون سياسات الدفع النقدي بديلاً عن جودة الخدمات، كأن تتصدر مطالب رفع بدل الإيجار عوضاً عن معالجة القضية الإسكانية أو إسقاط القروض وفوائدها بدلاً من معالجة الأضرار التضخمية أو العبث بقوانين التأمينات الاجتماعية مقابل التغافل عن رفع مستوى المعيشة والرفاهية لكبار السن والمتقاعدين وغير ذلك من الاقتراحات الشعبوية تلامس العرض لا المرض، وتكون على الأغلب، ذات كلفة مالية واقتصادية وأحياناً اجتماعية سلبية.لم يعد أمام مالية الكويت ذاك الترف الذي كانت تحظى فيه خلال السنوات السابقة، فالميزانية التي تضاعفت خلال 20 عاماً في مصروفاتها بأكثر من 7 مرات إلى 21.5 ملياراً في 2020 لم يعد متاحاً مضاعفتها مرة أخرى، والاحتياطي العام الذي كان يمثل وسادة الأمان لتمويل الاحتياجات الطارئة تم تجفيف السيولة فيه على مدى 5 سنوات، والحلول السهلة كالاستدانة للإنفاق على أوجه الصرف السابقة في الميزانية واستمرار الرهان على أسعار النفط لسداد الديون وتبعاتها لهما كلفة عالية بالتوازي مع عدم اليقين في أسواق الطاقة وتحديات نمو المصروفات... فتحديات المستقبل في توفير الخدمات المتعددة ومتطلبات سوق العمل تتعاظم في كل عام أكثر من سابقه.