أن تدخل المياه كسلعة شأنها شأن النفط والذهب ويتم التعامل معها بالعقود الآجلة في بورصة "وول ستريت" من قبل سوق السلع بـ"شيكاغو" الأميركية فهذا هو الحدث.

العالم يتغير نعم، فما يحدث على سطح الكرة الأرضية من تقلبات في المناخ، ومن نمو سكاني مخيف للبشر، ومن حالة الجفاف التي تصيب أجزاء من المعمورة، كلها تصب في خانة واحدة وهي أننا نشهد "انقلابات" غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين.

Ad

كان العالم يدق طبول الحرب من أجل المياه والأمم المتحدة تحذر من وقوعها بين وقت وآخر، لكنها لم تقع بعد، وربما في السنوات القادمة.

وبعد ثلاث سنوات من الآن، أي في عام 2025، سيواجه نحو 5.1 مليارات آدمي من مجموع السكان حول العالم والبالغ 7.8 مليارات نسمة "نقصاً في المياه" وستكون "ندرة المياه" واحدة من أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين على حد تعبير الرئيس العالمي لمنتجات الأسهم والاستثمارات البديلة في أميركا.

ما حدث في كاليفورنيا كان الدافع إلى إدخال المياه في بوصة "وول ستريت"، وهذه الولاية هي أكبر سوق زراعية على المستوى الأميركي تعرضت إلى العديد من حرائق الغابات وارتفاع في درجات الحرارة أدى إلى أضرار جسيمة في الساحل الغربي، إضافة إلى موجة الجفاف التي ضربت المنطقة، وتغير في المناخ وهو ما أدى إلى نقص خطير في المياه.

ما حصل أن المزارعين ومستهلكي المياه الكبار وقطاع الكهرباء سيلجؤون من الآن وصاعداً إلى البورصة لإبرام عقود آجلة ستتم تسويتها مالياً فقط دون توريدها بالحال، بحيث يضمنون سعراً عادلاً ومقبولاً في مواسم الجفاف وكي لا تبقى المياه عرضة للتلاعب من قبل المستثمرين والمتحكمين بالسوق، وهذه المياه لا علاقة لها بمياه الشرب ولا بتسعير خدمات توصيلها.

ما يعنينا في منطقتنا العربية أننا سنكون أمام استحقاقات، مخاطرها عالية جداً إن لم يتم تدبير الاحتياجات وفق التزامات وإدارة ملف المياه بأسلوب جديد تجنباً للوقوع في "النهر"!

التوقعات تشير إلى أن المشهد القادم في القرن الحادي والعشرين سيتبدل إن بقيت أحوال المياه والأنهر العابرة للحدود تتحكم فيها أربع دول كبرى وهي إيران وتركيا وإثيوبيا وإسرائيل، دول تسيطر على مصادر المياه التي يعتاش عليها سكان العالم العربي.

حوض نهر الأردن، على سبيل المثال أحد أكثر الأماكن التي تعاني نقص المياه على مستوى نصيب الفرد، وتدخل فيها سورية ولبنان وفلسطين والأردن، وهذه الدول ستكون، وكما هي اليوم في الواقع، تحت رحمة إسرائيل، دون وجود اتفاقيات ملزمة تؤمن وتتقاسم فيها دولة المصب مع الدول الأربع حصصها من المياه وفقاً لقانون البحار الدولي.

ووفق تقارير الأمم المتحدة كانت المياه "مورداً وفيراً" في هذا الحوض لكن مع تزايد العدد السكاني، وشح المورد، وموجات الجفاف، سيكون الأمر مختلفاً في ظل وجود نزاعات وحروب بين إسرائيل وتلك الدول، وما نراه من "أزمة متصاعدة" كادت تلامس قرع طبول الحرب بين مصر والسودان من جهة وبين أثيوبيا من جهة ثانية، دليل واضح على أهمية هذه "السلعة" الاستراتيجية في عالمنا.

معالم الأزمات القادمة يرسمها الخبراء وأصحاب الاختصاص، لكن في ظل المعطيات القائمة، وزيادة الطلب على "شريان الحياة" وتراجع المعروض، الأزمة واقعة حتما هذا على المستوى الأميركي، أما المشكلة عندنا فهي أكبر بكثير ليس من زاوية دخول المياه كسلعة في أسواق البورصات العالمية فقط، بل من عدة زوايا أهمها:

أولاً: تحكم دول المصب الأربع بمياه العالم العربي وهي تركيا وإيران وإسرائيل وإثيوبيا.

ثانيا: عدم التزام دول المصب بقوانين البحار الدولية التي تنظم حصص الأنهر العابرة للحدود.

ثالثا: حدوث تغير المناخ، وزيادة في عدد السكان وموجات الجفاف المتتالية وفي ظل الحاجة المتزايدة للمياه، "وبغياب المورد المائي" تبرز المعضلة الكبرى.

رابعاً: بالرغم من أن منطقة الخليج العربي تكتفي بتحلية مياه البحر لسد احتياجاتها فإنها معرضة للعديد من المخاطر فاحتياطيات المياه الاستراتيجية معرضة أيضا للتوقف، وإن كان هناك من يرى أن البديل سيكون حتماً باستيراد المياه من الخارج وجعلها في أماكن آمنة.

لقد دخلت المياه "الخط الأحمر" في حدود المنطقة العربية، وهي معرضة إلى حدوث انتكاسات خطيرة إن لم يتم التحوط من ذلك وإيجاد البدائل، فالثقافة السائدة عند دول المصب تحولت إلى وسيلة ضغط سياسي واقتصادي يرفعونها في وجه جيرانهم، كما فعل الأتراك، عندما كنت أحد الصحافيين نتابع افتتاح سد أتاتورك، التقيت بمدير مشروع "الغاب" وكان جريئاً في الرد على أسئلتي خصوصا ما يتعلق منها بموضوع استخدامات المياه كمصدر قوة وكمورد اقتصادي، فقال بعدما سألني عن الدولة التي أعمل فيها: "المياه بالنسبة إلى تركيا مثل النفط بالنسبة إلى الكويت، هذا المورد في باطن الأرض والثاني فوق الأرض نحن لنا الحق في استثماره كيفما شئنا، ولا نتدخل في حصص بيع النفط، تماماً كما أن الآخرين لا يحق لهم التدخل بتوزيع حصص المياه وفرضها علينا"، ثم ختم كلامه بالقول: "لكم نفطكم ولنا مياهنا"!

فنحن نعيش عصراً جديداً، سيكون برميل المياه موازياً في أهميته، ربما لبرميل النفط!

حمزة عليان