قيم العمل البرلماني
العمل البرلماني هو قيمة بحد ذاته، وممارسته تحكمها تقاليد وأعراف ونصوص قانونية تضبط إيقاع ممارسة العضو لوظيفتيه التشريعية والرقابية بهدف تحقيق المصلحة العامة لا الخاصة والوطنية لا الفئوية.
مع إعلان النتائج الأخيرة لانتخابات أعضاء مجلس الأمة وإعادة تشغيل محركات العمل البرلماني وتفاؤل الشعب الكويتي بالوجوه الجديدة التي نالت شرف تمثيل الأمة، يبرز حجم المسؤولية والأمانة التي يحملها كل عضو من الأعضاء على عاتقه، أمام الله تعالى وأمام الأمة الكويتية جمعاء، فالعمل البرلماني هو قيمة بذاته، وممارسته تحكمها تقاليد وأعراف ونصوص قانونية تضبط إيقاع ممارسة العضو لوظيفتيه التشريعية والرقابية بهدف تحقيق المصلحة العامة لا الخاصة والوطنية لا الفئوية.فرغم الحصانة التي يتمتع بها عضو مجلس الأمة في ممارسة عمله داخل قاعة عبدالله السالم، وبما لا يتناقض مع المادة (19) من القانون رقم (12) لسنة 1963 في شأن اللائحة الداخلية لمجلس الأمة التي تمنح عضو مجلس الأمة الحرية "فيما يبديه من الآراء والأفكار بالمجلس أو لجانه" فلا تجوز مؤاخذته عن ذلك بحال من الأحوال، يبقى السقف الأعلى لعمل عضو مجلس الأمة مرهونا بمجموع "القيم والمبادئ الأخلاقية والدينية والقانونية" التي أطّرها المشرع في قوالب نصية تحكم السلوكيات البرلمانية. نشير أولاً الى أن مسألة حضور الأعضاء للجلسات العامة ولاجتماعات اللجان البرلمانية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمبدأ احترام العضو لصفته التمثيلية واعتبار نفسه في كل تصرفاته وقراراته وكيلا مفوضا من ناخبيه لتمثيلهم في أي مقام أو مناسبة ناطقا باسمهم ومعبرا عن تطلعاتهم، ومن جهة ثانية، فإن التزام العضو بنظام الكلام في البرلمان ورقي أسلوب التخاطب والتعامل والمناقشة في عمله، هو قيمة يحترم من خلالها مسؤوليات حرية التعبير ويقدّر فيها بالوقت نفسه حرية الآخرين باعتناق فكر أو ابداء رأي. ونضيء ثالثاً على أهمية تمسك عضو مجلس الأمة بمبدأ الشفافية وعدم استغلال الحصانة النيابية لغير ما وجدت من أجله، فهو ليس بمأمن عن المساءلة عند استغلال النفوذ أو ممارسة الابتزاز السياسي أو الاشتراك في هدر أو سرقة الأموال العامة والخاصة. وفي مجال رابع وأخير، من واجبات عضو مجلس الأمة الحرص على مبدأ التعاون في سبيل تحقيق المصلحة العامة، وهذا الأمر لا يقتصر على تعاون الكتل النيابية والتيارات السياسية الممثلة بالبرلمان فيما بينها، بل تتسع آفاقه ليشمل التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وإسقاطاً لهذه الخطوط الأربعة العريضة على الواقع الكويتي، نلاحظ أن اللائحة الداخلية لمجلس الأمة الصادرة بالقانون رقم (12) لسنة 1963 قد أبرزت تحت عنواني «واجبات الأعضاء»، و«نظام العمل في الجلسات» بعض الضوابط التي تحكم العمل البرلماني، والتي تدور في فلك "القيم" التي نحن في معرض إلقاء الضوء عليها والتذكير بها.فقد نظمت المادة (24) من اللائحة الداخلية مسألة غياب العضو بعذر ومسألة طلب الإجازة لمدة غير معينة، وكذلك مسألة حظر الانصراف النهائي من الجلسة التي يحضرها قبل ختامها إلا بإذن من الرئيس، تحت طائلة نشر أمر غيابه أو انصرافه في الجريدة الرسمية وفي جريدتين يوميتين على نفقته، وكذلك قطع مخصصاته عن المدة التي يغيبها إذا تكرر ذلك لخمس مرات متتالية، وقد يصل الأمر عند التكرار الى اعتباره مستقيلا، وفقا لنص المادة (25). ويرتبط بهذه الأحكام ما نصت عليه بعض المواد ولاسيما المواد (73، 74، و75) التي تتعلق بضبط حضور الأعضاء للجلسة النيابية واكتمال النصاب اللازم لانعقادها قانونياً.وفي سياق آخر تحكم مسألة الإذن بالكلام وترتيب المناقشة وأصولها عدة نصوص مستقاة من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة الكويتي، فلا يجوز لأحد مثلا، وفق المادة (78)، أن يتكلم إلا إذا استأذن الرئيس وأذن له، وليس للرئيس أن يمنع أحدا من الكلام إلا بمسوغ قانوني. ووفق نص المادة (82) «لا يجوز للعضو بغير إذن من المجلس أن يتحدث في الموضوع الواحد أكثر من مرتين أو أن يجاوز حديثه في المرة الواحدة ربع ساعة»، إلا أنه استثناء من ذلك وضحت المادة (83) أنه يؤذن دائما بالكلام في حالات: توجيه النظر إلى مراعاة أحكام الدستور ولائحة المجلس الداخلية، الرد على قول يمس شخص طالب الكلام، طلب التأجيل أو إرجاء النظر في الموضوع المطروح للبحث الى ما بعد الفصل في موضوع آخر يجب البت فيه أولا، وطلب إقفال باب المناقشة. كما نظمت المادتان (80 و81) مسألة ترتيب الكلام بين طالبيه، وفيما يتعلق بأصول وأدبيات الكلام بينت المادة (85) أن يتحدث المتكلم واقفا من مكانه أو على المنبر، ويتحدث المقررون على المنبر ما لم يطلب الرئيس غير ذلك، وحظرت مقاطعة المتحدث بموجب المادتين (79) و(86)، حيث بينت الأولى أنه لا تجوز مقاطعة المتكلم، وعقبت الثانية أنه «لا يجوز لأحد مقاطعة المتكلم ولا إبداء ملاحظة له، والرئيس وحده هو صاحب الحق في أن يلفت نظر المتكلم في أية لحظة أثناء كلامه إلى مراعاة أحكام اللائحة والمحافظة على نظام الكلام وموضوعه، وعدم الاسترسال فيه أو تكرار كلامه أو كلام غيره». وتأكيدا على واجب الالتزام بالأخلاقيات المجتمعية والمبادئ العليا والسامية، نصت المادة (88) على أنه لا يجوز للمتكلم استعمال عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد أو أن يأتي العضو أمرا مخلا بالنظام.وفيما يخص المناقشات، لا تجوز وفق المادة (76) المناقشة في موضوع غير وارد في جدول الأعمال إلا للأمور المستعجلة وتحت بند ما يستجد من الأعمال... ويصدر قرار المجلس في هذه الطلبات دون مناقشة إلا إذا رأى الرئيس أن يأذن قبل إصدار القرار بالكلام لواحد من مؤيدي الطلب وواحد من معارضيه لمدة لا تزيد على خمس دقائق لكل منهما، كما نصت المادة (84) أنه «للمجلس بناء على اقتراح الرئيس أو الحكومة أو اللجنة المختصة، أو بناء على طلب كتابي مقدم من خمسة أعضاء على الأقل أن يحدد وقتا للانتهاء من مناقشة أحد الموضوعات وأخذ الرأي فيه أو إقفال باب المناقشة، ويشترط لقفل باب المناقشة أن يكون قد سبق الإذن بالكلام لاثنين من المؤيدين واثنين من المعارضين على الأقل». أما لجهة عدم جواز استغلال الصفة النيابية لأي تكسب مادي لا تسمح به التشريعات، فقد نصت المادة (26) أنه «لا يجوز للعضو أثناء مدة عضويته أن يشتري أو يستأجر مالا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو يقايضها عليه، ما لم يكن ذلك بطريق المزايدة أو المناقصة العلنيتين، أو بالتطبيق لنظام الاستملاك الجبري. كما لا يجوز للعضو أن يستعمل أو يسمح باستعمال صفته النيابية في أي عمل مالي أو صناعي أو تجاري». وفي مجال فصل السلطات وعدم جواز تدخل عضو مجلس الأمة بعمل السلطتين القضائية والتنفيذية، فقد نصت المادة (27) أنه «لا يجوز للعضو أن يتدخل في عمل أي من السلطتين القضائية والتنفيذية»، الأمر الذي رسمت خطوطه الرئيسية أحكام الدستور الكويتي في المادة (50) منه، والتي أكد فيها المشرع الدستوري على أن نظام الحكم في الكويت يقوم على أساس الفصل بين السلطات مع تعاونها. فمن واجب أعضاء مجلس الأمة إبداء جميع أشكال التعاون مع السلطة التنفيذية في جميع الأعمال البرلمانية، سواء أكان ذلك خلال ممارسة الاختصاصات الرقابية «الاستجوابات، الأسئلة...» أم خلال المناقشات العامة أم في غير ذلك من الأحوال. ذلك لأن ما يحكم عمل السلطتين، على الأقل نظريا ودستوريا، هو واجب تحقيق المصلحة العامة ومصلحة الشعب، الأمر الذي لا يمكن بلورته في الأنظمة البرلمانية والديمقراطية إلا من خلال تعاون جاد وصادق بين السلطتين المعنيتين.تبقى الإشارة مهمة وواجبة الى أنه مهما وجدت الضوابط وبيّنت النصوص واجبات العضو فإن الرقابة الذاتية تبقى هي المعيار الأساسي على التزام ممثل الأمة بمنظومة القيم الأخلاقية والدينية، ويبقى بره بقسمه الدستوري هو النبراس لعمله وتصرفاته، مع الإشارة الى أن اللائحة الداخلية لمجلس الأمة بينت في بعض موادها ولاسيما (25) و(86) إلى (91) ما يمكن لرئيس الجلسة أو للمجلس- بحسب الأحوال- أن يتخذ إجراءات أو يوقع جزاءات بحق المخل بالنظام، وهنا تكمن ملاحظة جوهرية مفادها أن المشرع بين في بعض المواد الضابط القيمي ولم ينص على جزاء مخالفته، أو انه نص على جزاء غير مناسب أو يصعب تطبيقه. فحرمان العضو المخل بالنظام من المشاركة في أعمال المجلس، على سبيل المثال، يتطلب توافقا سياسيا قد يصعب توافره، فيقتصر دور الرئيس وفق نصوص اللائحة على لفت نظر العضو، وقد يكتفي المجلس، وفقاً لأحكام المادة (89)، بتوجيه إنذار أو لوم دون أن يتمادى الى منع العضو من الكلام بقية الجلسة أو إخراجه من قاعة الاجتماع مع الحرمان من الاشتراك في بقية أعمال الجلسة، أو حرمانه من الاشتراك في أعمال المجلس ولجانه مدة لا تزيد على أسبوعين.جل ما يمكن أن يتخذه الرئيس، نصت عليه المادة (90) حيث إنه: «إذا اختل النظام ولم يتمكن الرئيس من إعادته أعلن عزمه على وقف الجلسة، فإن لم يعد النظام جاز له وقفها لمدة لا تزيد على نصف ساعة، فإذا استمر الإخلال بالنظام بعد إعادة الجلسة جاز للرئيس تأجيل الاجتماع». كما أنه وعند مخالفة نظام الكلام، سواء بالاسترسال أو بالتكرار (مادة 86) أو باستعمال عبارات غير لائقة أو فيها مساس بالكرامات الشخصية (مادة 88) فإن دور رئيس مجلس الأمة الكويتي ينحصر في لفت النظر. هذا الواقع يخالف -بدرجات متفاوتة- ما هو موجود في العديد من النصوص العربية والغربية حيث أعطي الرئيس دورا أكبر في توقيع الجزاء، ومن ذلك نذكر المادة (147) من اللائحة الداخلية للبرلمان الأوروبي، والبند (8) من المادة (31) من لائحة تنظيم أعمال المجلس الوطني الفلسطيني لسنة 2001، والمادة (93) من اللائحة الداخلية لمجلس الشورى العمانين والمادة (288) من اللائحة الداخلية لمجلس الشعب المصري، والمادة (85) من النظام الداخلي لمجلس الأمة الجزائري الصادر في 28 نوفمبر 2000، والمادة (14) من النظام الداخلي لمجلس النواب التونسي السابق، وكذلك المادة (99) من النظام الداخلي لمجلس النواب الأردني لعام 1996.وهنا تتبلور أهمية وضرورة اعتماد آليات عقابية وتأديبية فاعلة تحول دون بقاء المخل بنظام وقيم المجتمع وأدبيات العمل البرلماني، بمأمن عن المساءلة الفورية في حياته السياسية والبرلمانية.يكتفى في هذا الإطار بأن يشار الى بعض التجارب المقارنة التي تنص على وجود لجنة تسمى «لجنة القيم» تختص بالنظر فيما ينسب إلى أعضاء المجلس من مخالفات تشكل خروجا على القيم الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية، أو المبادئ الأساسية السياسية والاقتصادية للمجتمع، ومعاقبته طبقا لأحكام الدستور أو القانون أو اللائحة التي تنظم عمل البرلمان نفسها. وفي ختام القول لا بد من الإشارة إلى أن منظومة القيم التي تحكم سلوكيات العمل البرلماني واسعة ومتشعبة، ولا يسمح المقام بتفصيل أكبر وأكثر عنها، ولعل في هذه الإضاءة السريعة والبسيطة على بعض جوانبها ما يشكّل فرصة لإعادة رسوها على السطح لتبرز مقاصدها في الممارسة اليومية للحياة السياسية والشعبية لأعضاء مجلس الأمة الموقرين.
د. بلال الصنديد
مهما وجدت الضوابط وبيّنت النصوص واجبات العضو فإن الرقابة الذاتية هي المعيار الأساسي على التزام ممثل الأمة بمنظومة القيم الأخلاقية والدينية
المادة (88) نصت على عدم جواز استعمال عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد
المادة (88) نصت على عدم جواز استعمال عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد