سيذكر التاريخ أن 15 يونيو 2020 هو اليوم الذي أوشكت فيه قوتان نوويتان (الصين والهند) على خوض معركة حدودية بسبب منطقة متنازع عليها، وكان الاشتباك في "جلوان" مفاجئاً للبعض لكن تكشف المعطيات التاريخية أن المواجهات الصينية الهندية على الحدود تحصل في معظم الأوقات حين تكون الصين في أضعف حالاتها، أو عندما ترغب بكين في إضعاف جهود إنشاء تحالف مضاد لها، وكلما استمرت الضغوط الخارجية على الصين بقي الصراع الواسع على الحدود الصينية الهندية احتمالاً وارداً. لكن يجب أن يتوخى الطرفان الحذر منعاً لإطلاق مسار يضمن تصعيد الوضع بطريقة غير مرغوب فيها.

في عام 2016، عقدت الهند والولايات المتحدة اتفاقاً لوجستياً عسكرياً لتسهيل العمليات المشتركة بين الطرفين، واستنتج المحللون الصينيون أن الهند وقّعت اتفاقاً لمجابهة الصين بمساعدة الأميركيين، وفي المقابل أرادت واشنطن استعمال الهند للضغط على الصين، وفي عام 2019، أعلنت الولايات المتحدة استراتيجية خاصة بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وهي تدعو إلى تعزيز التعاون مع اليابان وأستراليا والهند للضغط على الصين.

Ad

في ظل هذه الظروف، اعتبر المحللون الصينيون الاشتباك في "جلوان" مؤشراً على نشوء مؤامرة دولية محتملة ضد الصين، ووفق أحد التحليلات، شجّعت الولايات المتحدة الهند على أمل أن يتقاتل البلدان الآسيويان في ما بينهما، لكن بحسب وجهة نظر مختلفة، كانت تحركات الهند على الحدود مستوحاة من الضغوط الأميركية على الصين والمشاكل التي تواجهها بكين بسبب هذا الوضع. توقعت نيودلهي أن تتنازل بكين على الحدود مقابل التعاون الهندي الأميركي الأسترالي الياباني ضدها لكنها كانت مخطئة. يذكر تحليل آخر أن الهند أرادت أن تنشئ أجواءً شبه حربية لتلقي الدعم من الولايات المتحدة وحلفائها، وقد كانت هذه الخطوة مستوحاة على الأرجح من المنافع التي حصدتها الهند من الدعم السوفياتي والأميركي بعد خسارتها ضد الصين في عام 1962.

أمام هذه المعطيات، يتماشى الاشتباك في "جلوان" مع نمط الاستراتيجية الصينية المبنية على مكافحة الحصار وهزم الأعداء واحداً تلو الآخر، ويخدم الاشتباك أهداف هذه الاستراتيجية بطريقتَين: أولاً، شكّل هذا الحدث تحذيراً لنيودلهي مفاده أن التحالف ضد الصين يترافق مع تداعيات سلبية. ثانياً، قد يدفع أي صراع حدودي الهند إلى تغيير وجهتها، مما يعني الانتقال من تسهيل الاستراتيجية البحرية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ إلى تطوير قدراتها البرية في المنطقة المتنازع عليها.

يتوقف احتمال اندلاع اشتباكات أخرى على الأطراف المعنية بالصراع، فقد تميل بكين مثلاً إلى مهاجمة الهند لإثبات قوتها العسكرية ومنع أي جهات أخرى من تحدي الصين، لكنّ الجيش الهندي في عام 2020 لا يشبه ما كان عليه في عام 1962، ولم تكتفِ الهند بتحسين دفاعاتها على الحدود بدرجة كبيرة، بل إنها أصبحت أيضاً قوة نووية وبحرية يُحسَب لها حساب، فقد يؤدي أي صراع مع نيودلهي اليوم إذاً إلى تكبّد تكاليف تفوق تداعيات ما حصل قبل ستة عقود تقريباً.

على الجانب الآخر من الهيمالايا، قد تقرر الهند التقرب من الولايات المتحدة لأن واشنطن تستطيع أن تمنحها منافع كثيرة على مستوى التعاون الاستراتيجي، لكن يجب أن تتحرك الهند بحذر في تعاملها مع الشراكة الاستراتيجية المتوسّعة مع الدول التي تعتبرها الصين غير ودّية، مثل الولايات المتحدة وأستراليا واليابان. قد تعتبر بكين هذه الخطوات مقصودة بهدف مضايقتها ومهاجمتها بقوة مضاعفة.

أخيراً يجب أن تقيم الولايات المتحدة، بصفتها اللاعبة الثالثة في هذا الصراع، توازناً شائكاً بين الصين والهند، فمن جهة، يشكّل الصراع الحدودي فرصة مناسبة كي يتقرب الأميركيون من الهند ويعززوا التعاون الاستراتيجي معها، لكن من جهة أخرى، يجب ألا تبالغ واشنطن في تقدير قوتها في هذه المنطقة، وقد يؤدي تكثيف التواصل الاستراتيجي مع الهند إلى زيادة مشاعر الصين بالضعف، مما يدفعها إلى تأجيج عدائيتها.

* دانيال بالاز *

دبلومات