لا تفوّت الإدارة العامة في الكويت مناسبة إلا وتثبت فيها مدى استفحال إصابتها بالمرض الهولندي الذي تطور كثيراً، على ما يبدو، الى نموذج جديد فريد في العالم اليوم يمكن وصفه بـ "المرض الكويتي".فالمرض الهولندي مصطلح اقتصادي أطلقته مجلة الإيكونومست في سبعينيات القرن الماضي لوصف حالة الرفاهية الزائفة التي أصابت الاقتصاد والمجتمع الهولنديين حين اكتشف النفط والغاز في بحر الشمال، فتضخمت الثروات بسهولة بين أفراد الشعب الهولندي، وانحدر الإنتاج الصناعي فيها، وتنامى الاعتماد على العمالة الأجنبية بالتوازي مع ارتفاع حاد في سعر العملة الوطنية (الغيلدر)، ففقدت الصناعة الهولندية تنافسيتها لمصلحة الاستيراد الخارجي، وازدادت ظاهرة اقتناء السلع الفارهة والكماليات، وأصاب التراجع مختلف المفاصل الاقتصادية في تلك الدولة الأوروبية، فاستفاد من هذه الثروة جيل واحد من الهولنديين على حساب الأجيال القادمة، قبل أن تتدارك إدارتها مخاطر هذا المرض، ولكن بعد أن استنزف كثيرا من ثروات البلاد وقيمتها التنافسية، خصوصا في الصناعة مقارنة بجوارها الأوروبي.
ومثل المرض الهولندي أمراض أخرى مماثلة بعضها بعيد بعض الشيء، كمثال جزيرة ناورو الواقعة في المحيط الهادي، والتي كانت من أغنى دول العالم، بفضل الثروة المفاجئة مع اكتشاف مناجم الفوسفات، فعاش الشعب فيها في حالة استثنائية من الترف والإنفاق الاستهلاكي، حتى نضب الفوسفات في سبعينيات القرن الماضي، فتحولت الحال تماما، لتصبح الجزيرة ملاذا لشبكات غسل الأموال والتهرب الضريبي.وهناك مثال آخر معاصر، كفنزويلا السابحة على بحيرات من البترول، كسادس أكبر احتياطي نفط في العالم، والتي تدهورت أوضاعها الاقتصادية والمالية سريعا مع تراجع اسعار النفط العالمية عام 2014، لتنكشف أمام الدائنين، وتهوي عملتها (البلويفار) لمستويات تاريخية تجاوزت 90 في المئة من قيمتها، مصحوبة بتضخم جامح في أسعار مختلف السلع، فضلا عن هجرة الفنزويليين الى دول الجوار اللاتينية للحصول على الحد الأدنى من الغذاء والدواء.
انتشار الداء
ولا يتمثّل المرض الكويتي فقط في استفحال الداء وانتشاره على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي من جهة عظم الاعتماد على النفط من الإيرادات بنسب تتجاوز 90 في المئة أو ثقل وزن القطاع العام في سوق العمل بنحو 80 في المئة أو اختلال التركيبة السكانية بواقع 70 في المئة لمصلحة الوافدين، وغيرها من انحرافات الإنفاق العام والهدر، إنما أيضا في رفض الدواء، والذي طالما رددته الحكومة في بياناتها من خطط إصلاح اقتصادي لا تلتزم بها وتوصيات من مؤسسات فنية كبنك الكويت المركزي أو وزارة المالية لا تجد طريقا الى التنفيذ أو حتى دراسات مدفوعة تقدمها جهات محلية أو أجنبية يتم تسلمها لتوضع في الأدراج، ناهيك بالعديد من أعمال المجلس الأعلى للتخطيط وتوصياته ودراساته وخطط التنمية السنوية وغيرها كثير، كلها تحدد مكامن الخلل بشكل كامل أو جزئي، ولا تجد سبيلا الى التنفيذ، مما يزيد في استفحال الداء.التشكيل الوزاري
الفرصة التي لم تفوتها الكويت لتأكيد استفحال المرض في إدارتها كانت متمثلة هذا الأسبوع في التشكيل الوزاري الذي يثبت أنها لا تزال تتصرف في الوقت الصعب بعقلية سنوات الفوائض التي سترت كل عيوب الإدارة، فالتشكيل لا يزال يرتكز في فلسفته على المعايير غير الحصيفة نفسها التي طالما سيطرت على تشكيلاته السابقة، فالمحاصصة القبلية والمذهبية موجودة، وحتى التمثيل حسب الجنس بوجود امرأة واحدة لا أكثر متوافر، وحصة أبناء الأسرة الحاكمة من الوزارات مضمونة، فضلا عن إعادة وزراء سابقين تم استبعادهم أو قدّموا استقالاتهم، وعودتهم دون معرفة أسباب الاستبعاد أو الاستقالة، ولا سبب إعادة توزيرهم، إذ طغت كما في العادة معايير الولاء، لكونها الأصل في الاختيار لا الكفاءة، والأهم من ذلك كله غياب البرنامج الحكومي الواضح في التعامل مع تحديات اقتصادية أصعب بكثير مما شهدناه في السنوات الماضية.تحديات صعبة
على المديين القصير والمتوسط، تواجه الكويت تحديات متعددة، منها كيفية التعامل مع دخول سوق الديون السيادية ومدى حصافة الاقتراض في ظل سياسات الهدر وتعاظم الإنفاق، الى جانب التأثير السلبي لتراجع أسعار النفط على مختلف الخدمات، كالرعاية السكنية والصحة والتعليم، فضلا عن توفير الرواتب لموظفي الدولة، ناهيك بإعادة تنمية الاحتياطي العام بعد استهلاك سيولته خلال أقل من 5 سنوات، إضافة إلى إعادة توجيه مصروفات الميزانية لمصلحة المشروعات ذات القيمة التنموية أكثر من الاستهلاكية، وفوق ذلك تحديات سوق العمل والتركيبة السكانية وخلق بيئة استثمارية مجدية للمستثمر المحلي والأجنبي ومعالجة إخفاقات المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهذا كله لا يغفل أهمية حماية سمعة الكويت الاقتصادية والمالية التي تفتك بها جرائم الرشا والأموال المشبوهة وعمليات غسل الأموال.قيل قديما "السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه"، ولا شك في أن تحوّر المرض الهولندي الى مرض كويتي يرفض تلقي العلاج الموجود أمامه، رغم كل أعراض الداء الواضحة، سيؤدي الى انتشار أوسع للداء، وسيكون له نتائج سلبية وخطيرة على المدى المتوسط، ليس فقط إذا طال أمد تراجع أسعار النفط، إنما أيضا في ظل تصاعد المصروفات وانفلاتها، وعدم قدرة الإدارة المبنية على معايير الولاء والمحاصصة على مواجهة الحالة المرضية، فالطبيب غير المتخصص لن يستطيع تقديم العلاج، ومثله الحكومات غير المتخصصة التي لا تمتلك البرامج الاقتصادية لن تستطيع حتى طرح "روشتة" الإصلاح.