سيصل الرئيس المُنتخب جو بايدن إلى سدة الرئاسة في وقت حساس بالنسبة إلى الجيش الأميركي، فبعد عقود من التركيز على قوى صغيرة وجهات فرعية، على الولايات المتحدة أن تستعد لحقبة جديدة من المنافسة مع الصين وبدرجة أقل مع روسيا، هذا الواقع يزيد أهمية أن تراجع الإدارة الأميركية استراتيجيتها الدفاعية بطريقة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة.

أصبح تحضير الجيش الأميركي لمجابهة العدائية الصينية أو الروسية هدفاً معقداً بسبب تراجع القوة الأميركية نسبياً، فبعد الحرب العالمية الثانية، تفوقت الولايات المتحدة على خصومها بدرجة كبيرة اقتصادياً وتكنولوجياً، وتستطيع واشنطن أن تستعمل موارد تفوق أعداءها بأشواط وأن تستخدم أسلحة وأدوات متطورة لتحقيق أهدافها العسكرية، لكن تراجع تفوّقها في هذين المجالَين معاً في الحقبة المعاصرة، وعلى إدارة بايدن المرتقبة إذاً أن تستفيد من القدرات العسكرية والتحالفات الأميركية لأقصى حد في ظل استمرار تضيّق الفجوة بين الولايات المتحدة وخصومها.

Ad

وصل التفوق الاقتصادي الأميركي النسبي اليوم إلى أدنى مستوياته منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولطالما كان الرابط بين الناتج المحلي الإجمالي والبراعة العسكرية قوياً: كلما توسّع حجم الاقتصاد زادت قوة الجيش، وأصبح الناتج المحلي الإجمالي في الصين (يساوي حوالي ثلثَي الناتج الأميركي ولا يزال في طور النمو) أكبر من أي قوة فردية أو قوى جماعية واجهتها الولايات المتحدة خلال القرن الماضي.

في ظل تلاشي التفوق الاقتصادي الأميركي وتراجع قوة حلفاء الولايات المتحدة، انحسر التفوق التكنولوجي أيضاً، وغداة الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة رائدة في مجال تطوير الأسلحة النووية، والغواصات العاملة بالطاقة النووية، والأقمار الاصطناعية الاستطلاعية والخاصة بالاتصالات، والصواريخ البالستية التي تزداد دقة، ثم قادت جهود تطوير طائرات شبحية وأسلحة ذكية ودقيقة التوجيه وشبكات اتصالات متقدمة.

لكن خلال العقد الماضي، انهار التفوق التكنولوجي للجيش الأميركي بدرجة كبيرة وبوتيرة متسارعة، وتأثرت البراعة التكنولوجية الأميركية بالطريقة نفسها أيضاً، فاضطر البلد الذي أطلق بعثات مأهولة متكررة إلى القمر قبل نصف قرن لإرسال رواد فضائه عبر صواريخ روسية حتى الفترة الأخيرة، وبالكاد يتكلم الأميركيون عن التوجه إلى كوكب المريخ فيما تستكشف الصين من جهتها أبعد جانب من القمر، وكذلك، لا تتمتع الولايات المتحدة بتفوق واضح في مجال التقنيات التجارية الناشئة مثل علم الأحياء التركيبي، وتصنيع المواد المضافة، والأقمار الاصطناعية الصغيرة، والذكاء الاصطناعي، وعلم الروبوتات، ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة لم تعد قوة بارزة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، لكنّ تفوّقها القديم تلاشى بكل وضوح ويتراجع احتمال أن تسترجع الهيمنة التي كانت تتمتع بها في آخر ثلاثة عقود أو حتى خلال الحرب الباردة.

تراجع التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الأميركي في وقت خاطئ جداً، فبعد ثلاثين سنة من المواجهات مع قوى «ثانوية» مثل العراق وليبيا ومنظمات إرهابية فرعية وحركات متمردة في أفغانستان والشرق الأوسط، يجب أن يستعد الجيش الأميركي الآن لخوض منافسة «من الدرجة الأولى» ضد الصين وروسيا، ولن تكون معظم المعدات القتالية التي طوّرتها الولايات المتحدة في حروبها الأخيرة مفيدة جداً للتصدي للقدرات الصينية والروسية المعاصرة.

اليوم يكاد جيش التحرير الشعبي الصيني يمحو الهيمنة العسكرية الأميركية في الحروب دقيقة التوجيه، ويحاول الجيش الروسي ابتكار نظام متطور للمهام الاستطلاعية عبر دمج تكنولوجيا الاستطلاع المتقدمة مع قوات الضربات الدقيقة من خلال شبكة اتصالات معقدة، إنه نظام «معقد» فعلاً لأن هذا النمط من الحروب يتكل على دمج أنواع مختلفة من القوى والقدرات، بدءاً من العناصر العسكرية الميدانية وصولاً إلى الأقمار الاصطناعية والمقرصنين.

قبل اختراع التلغراف في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الحروب تحصل في مجالَين: البر والبحر. لم تكن القوات البرية تستطيع فعل الكثير للتأثير مباشرةً على ما يحصل بحراً والعكس صحيح، لكن توسّعت الحروب منذ ذلك الحين وباتت تشمل ستة مجالات جديدة: جواً، وتحت البحر، وفي قاع البحر، والمجال الكهرومغناطيسي، والفضاء الجوي، والفضاء الإلكتروني، ثم زاد الوضع تعقيداً لأن العمليات الحاصلة في كل واحد من هذه المجالات تستطيع، ولو بدرجات متفاوتة، أن تؤثر على القطاعات الأخرى. تكون لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد صعبة بما يكفي، لكنّ المنافسة بين الجيوش المتقدمة اليوم أصبحت بثمانية أبعاد.

بعبارة أخرى، لم تعد القوات العسكرية هي التي تقود المهام في مجال معيّن، بل ترتكز هذه العملية اليوم على خليط من القوات الناشطة في مجالات متعددة ومتقاطعة، ونظراً إلى محدودية الموارد المتاحة، يجب أن يحدد المخططون العسكريون الأميركيون أهم المجالات التي يحتاجون إلى السيطرة عليها ويمنعوا الأعداء من التحكم بها، ومن واجبهم أن ينشطوا أيضاً في مجموعة واسعة من تلك المجالات ويكتسبوا القدرات المناسبة لتنفيذ هذه المهمة.

نوع مختلف من الجيش

لن تتمكن الولايات المتحدة من استرجاع قوة مطلقة في هذه المنافسة إذا استمر تراجعها الاقتصادي والتكنولوجي أمام الصين، وعلى واشنطن ألا تكتفي بزيادة ميزانياتها الدفاعية وتسريع البرنامج الدفاعي الراهن، إذ تحتاج الولايات المتحدة إلى جيش أكبر حجماً لمنافسة الصين وروسيا، لكنها أكثر حاجة إلى نوع مختلف من الجيش، مما يعني أن يأخذ بالاعتبار البيئة الأمنية المتبدّلة.

يجب أن تُركّز الولايات المتحدة في المقام الأول على إعادة الاستقرار إلى التوازن العسكري مع الصين وتعتبر روسيا من الأولويات الثانوية، ويجب أن يكتشف المخططون الدفاعيون الأميركيون كيفية ردع العدائية الصينية في غرب المحيط الهادئ والدفاع عن المنطقة في حال فشل نظام الردع تزامناً مع تجنب أي تصعيد قد يُمهّد لاستعمال الأسلحة النووية.

تتطلب هذه المهمة تحضير خطط مدروسة تُعرَف بالمفاهيم التشغيلية في المجال العسكري لاكتساب الخليط المناسب من القوات العسكرية والمنهجيات اللازمة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الأميركية في الحرب، وتُنشئ تلك المفاهيم التشغيلية رابطاً محورياً بين أهداف واشنطن الاستراتيجية المتوسّعة وسياستها الدفاعية وأولويات ميزانيتها.

طوّر الجيش الأميركي هذا النوع من المفاهيم التشغيلية المفصّلة خلال الحرب الباردة، وركّزت مجموعة منها على الدفاع عن الحدود الأوروبية التي ينشط فيها حلف الناتو في وجه الاعتداءات السوفياتية، فتعاون الجيش مع القوات الجوية لوضع إطار عمل لمواجهة تهديد الاتحاد السوفياتي في وسط وغرب أوروبا، وكانت تلك الخطة تفرض على الولايات المتحدة والقوات الميدانية الحليفة لها كبح أي تقدّم للقوات السوفياتية على جبهة القتال تزامناً مع الاتكال على قوات الضربات العميقة (مثل الطائرات القتالية والصواريخ والمدفعيات الصاروخية) لتفكيك الموجات الثانية والثالثة من القوات السوفياتية المتقدمة.

استعمل المخططون الأميركيون كميات كبيرة من المعدات في أوروبا الغربية لتدعيم قوات الناتو بوتيرة سريعة، فاستخدموا معدات إضافية في النرويج كي تتمكن وحدات مشاة البحرية الأميركية من الانتشار هناك سريعاً ودعم الجناح الشمالي لقوات الناتو. خططت البحرية الأميركية من جهتها لنشر خليط من الغواصات الهجومية وحاملات الطائرات البعيدة المدى وأجهزة الاستشعار في قاع البحر لإبقاء الأساطيل والطائرات السوفياتية عالقة وراء المياه التي تربط بين غرينلاند وأيسلندا والنرويج والمملكة المتحدة، مما سمح بنقل التعزيزات العسكرية بحراً بكل أمان من الولايات المتحدة إلى أوروبا، واستناداً إلى تلك المفاهيم التشغيلية، تمكّن كبار القادة المدنيين في البنتاغون والكونغرس من تحديد تفاصيل البرنامج الدفاعي وأولويات الميزانية وتبريرها.

تفتقر واشنطن اليوم إلى هذه الأنواع من المفاهيم التشغيلية المتكاملة للدفاع عن المصالح الأميركية المحورية في وجه التحديات المطروحة في غرب المحيط الهادئ وأوروبا، وتتطلب هذه المفاهيم أنواعاً أخرى من القوات العسكرية والأسلحة، مما يعني أن تكون مختلفة عن تلك التي أثبتت فاعليتها ضد القوات المتمردة والمنظمات الإرهابية، وفي ظل تراجع التفوق الاقتصادي الأميركي على الخصوم، يجب أن تنفق الولايات المتحدة ميزانيتها التجارية بذكاء وحذر، فكلما طالت المدة اللازمة لتطوير مفاهيم تشغيلية تناسب المنافسة بين القوى العظمى، بقيت البرامج الأميركية وأولويات الميزانية عقيمة لوقتٍ أطول.

لا يمكن تحسين القدرات العسكرية الأميركية لمواجهة التحديات التي تطرحها القوة العسكرية الصينية والروسية بين ليلة وضحاها، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تتشجّع حين تتذكر أن قواتها المسلّحة كانت قد توقفت عن العمل للتو غداة الحرب العالمية الثانية عندما بدأت تنافس الاتحاد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة، فلم يكن حلف الناتو قد نشأ بعد ولم تصبح ألمانيا الغربية جزءاً من الحلف إلا بعد عشر سنوات تقريباً، كذلك، كان عدد القوات الأميركية في أوروبا محدوداً في تلك الفترة وبدأ حلفاء واشنطن السابقون والمستقبليون في معسكر القوى العظمى (فرنسا وألمانيا واليابان وبريطانيا) يتعافون للتو من سنوات الحرب المدمّرة، لكن بدل تغيير الوجهة الأميركية، أرادت واشنطن أن تتجاوز حقبة الحرب الأخيرة وتستفيد من سلام دائم. مع ذلك، أدت الولايات المتحدة دوراً قيادياً والتزمت باستراتيجية سمحت لها بإطلاق حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى.

لحسن الحظ، تبدو أي حرب مع الصين أو روسيا مستبعدة على المدى القريب، لكن تبقى المواجهات العدائية المستقبلية خياراً وارداً، لا سيما إذا عجزت واشنطن عن التمسك بتوازن عسكري مستقر في غرب المحيط الهادئ أو أوروبا، وعلى المخططين الدفاعيين الأميركيين أن يصمموا وينفذوا استراتيجية واضحة للحفاظ على مصالح البلد الاستراتيجية الأساسية في عالمٍ شهد تغيرات عميقة في السنوات القليلة الماضية، فلم يعد تضييع الوقت ممكناً في ظل انهيار التفوق الأميركي.

● أندرو كريبينفيتش جونيور- فورين أفيرز