على مدار الأسبوع الماضي، اندلعت احتجاجات في أكثر من 12 بلدة في محافظة السليمانية الواقعة عند الحدود الشرقية لـ«إقليم كردستان العراق» احتجاجاً على تأخر دفع الرواتب، وحتى الآن، قُتل ثمانية متظاهرين برصاص ضباط الأمن الذين يحرسون مكاتب أحد الأحزاب والحكومة، وجُرح العديد من الأشخاص الآخرين، بمن فيهم أفراد الأمن، ورداً على ذلك، أغلقت السلطات شبكة الإعلام المعارضة «ناليا راديو وتلفزيون (إن أر تي)»، وقيّدت الوصول إلى الإنترنت المحلي، وفرضت حظر تجول، وأوقفت صادرات النفط من حقل سرقلة الذي تديره شركة «غازبروم».

ومن المتوقع انتشار المزيد من العنف من السليمانية التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني إلى أربيل ودهوك، التي يسيطر عليهما «الحزب الديمقراطي الكردستاني» المنافس، وقد يؤدي هذا السيناريو إلى قيام حالة طوارئ أوسع نطاقاً، على غرار ما حدث مع الاحتجاجات في أجزاء أخرى من العراق في العام الماضي، ووفقاً لذلك، يتعين على سلطات «إقليم كردستان العراق» التوقف عن العبث بالأزمة الاقتصادية المستمرة.

Ad

المظالم العامة

منذ عام 2017، اندلعت احتجاجات متفرقة في «إقليم كردستان العراق»، أثارها تأخر مزمن في دفع الرواتب الحكومية، وفي خطوة قاسية لردع مثل هذه المظاهرات، اعتقلت السلطات الكردية 200 شخص بين مايو وأغسطس من هذا العام، من بينهم 100 موظف حكومي و8 صحافيين في دهوك، ووصفت السلطات هؤلاء المتظاهرين السلميين- ومعظمهم من المعلمين- بـ«مثيري الشغب».

وفي مؤتمر صحافي عقده رئيس الوزراء مسرور بارزاني في ديسمبر، وصف التظاهرات الأخيرة بأنها «مؤامرة ضد «إقليم كردستان العراق»»، في حين ألقى مسؤولون آخرون باللوم على «حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا بالتحريض على الاضطرابات، وبعد ذلك بوقت قصير، هدد مسؤولو الأمن، السكان ضد قيام المزيد من الاحتجاجات.

وبسبب انخفاض أسعار النفط وسوء الإدارة الاقتصادية، لم تتمكن «حكومة إقليم كردستان» من صرف الرواتب الكاملة ومدفوعات الخدمات الاجتماعية في الوقت المناسب، وحتى الآن هذا العام، لم يتقاضَ السكان المؤهلون سوى ستة من أقساطهم الشهرية، مع تخفيض كل صك بنسبة 18 إلى 50 في المئة، كما تمت إعاقة الشؤون المالية لـ«إقليم كردستان العراق» بسبب الخلاف المستمر مع بغداد حول الميزانية وشروط تقاسم عائدات النفط. وعلى الرغم من الالتزام العلني لـ«حكومة الإقليم» بإجراء إصلاحات هيكلية من شأنها أن تقلل من اعتمادها المعوّق على الحكومة الاتحادية، فإنّها لم تنّفذ أيّاً من هذه الإصلاحات حتى الآن، كما أن مفاوضاتها مع بغداد فشلت في ضمان اتفاق مستدام.

وتفاقمت جميع هذه المشاكل بسبب الاقتتال الداخلي وسياسة المحسوبية بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، ويدير الحزبان إقليم كردستان العراق منذ عام 1992، ويُحافظان على الجزء الأكبر من مواردهما المالية وقواتهما العسكرية في مناطق منفصلة خارج نطاق مساءلة الحكومة. وعلى الرغم من أنهما ساعدا في تشكيل صناعة بترولية كردية تُصدّر حوالي 400.000 برميل من النفط يومياً، فإنهما سمحا أيضاً للمؤسسات الاقتصادية الأخرى في «إقليم كردستان العراق» بالتخلف عن الركب، مما حرم المواطنين من الاستقرار المالي والشفافية الذين هم في أمس الحاجة إليهما، وقد وظّفت الحكومة أشخاصاً بأعداد كبيرة وابتكرت طبقات متعددة من الاستحقاقات الاجتماعية، بحيث أصبح عدد السكان الذين يعملون لصالح «حكومة إقليم كردستان» أو يعتمدون على منافعها يبلغ اليوم 1.27 مليون شخص، أو ما يناهز ربع إجمالي عدد السكان، وتمتد هذه المشكلة أيضاً إلى القوات العسكرية، وفي تعليق ساخر قال نائب رئيس الوزراء قوباد طالباني ذات مرة إن قوات «البشمركة» الكردية لديها جنرالات أكثر من جيشي الولايات المتحدة أو الصين.

ووفقاً لـحكومة إقليم كردستان، تبلغ قيمة الأجور حالياً 755 مليون دولار شهرياً في حين يمكن أن تدر مبيعاتها من النفط 450 مليون دولار فقط، وبما أن الحكومة عجزت عن تطوير مصادر دخل بديلة، فهي تعتمد على التحويلات النقدية من بغداد لتعويض الفارق، ومع ذلك، تتعرض الحكومة الفدرالية نفسها لضغوط عامة ومالية هائلة، مما يجعلها تعارض أكثر من أي وقت مضى دعم الشؤون المالية لإقليم كردستان العراق، ما لم يسلّم الأكراد بعضاً من نفطهم، وهو التزام تعهدوا به مراراً وتكراراً ولكنهم لم يفوا به. والآن وقد تعذّر على «حكومة إقليم كردستان» دفع الفواتير المتوجبة عليها في الداخل، فقد لجأت إلى استراتيجية واهية تقوم على استخدام العنف والترهيب لإخماد الاستياء العام.

حدود القرارات المتخبّطة

لا تزال «حكومة إقليم كردستان» تعاني أزمة مالية بدأت عام 2014 مع انهيار أسعار النفط العالمية، وإيقاف بغداد تحويلات ميزانيتها إلى الأكراد، وسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على ثلث مساحة العراق، ورأى بعض قادة «الإقليم» في الأزمة فرصةً لإصلاح اقتصادهم غير المستدام، لكن «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» اختارا أنصاف الحلول في النهاية.

على سبيل المثال، اقترضت «حكومة إقليم كردستان» قروضاً كبيرة مقابل صادراتها النفطية، وتكبّدت التزامات تطالب بإجمالي 27 مليار دولار حالياً، وفي العام الماضي، أبرمت اتفاق موازنة موات مع رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبدالمهدي، لدعم حكومته مقابل تحويلات من قبل الحكومة الاتحادية قدرها 268 مليون دولار شهرياً، دون إلزام «إقليم كردستان العراق» بتسليم عائدات النفط أو الجمارك، لكن الاتفاق انهار منذ ذلك الحين، وكانت المفاوضات الجارية مع رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي غير مثمرة.

ويبدو أن كلاًّ من «حكومة إقليم كردستان» وحكومة بغداد تتفاوضان بسوء نية، فتراهما تغيّران المعايير والشروط باستمرار لكسب الوقت بانتظار أن يصبح الطرف الآخر أكثر ضعفاً، كما يبدو أنهما تتطلعان إلى انتخابات مبكرة في عام 2021 باعتبارها فتحة هروب محتملة، ومع ذلك، فإن بعض اتهامات «حكومة إقليم كردستان» للسلطات الاتحادية تخفي ببساطة إخفاقات سياستها الاقتصادية، مما يمنح السياسيين في بغداد دوافع أكبر لاتهام الأكراد بأخذ أكثر من حصتهم العادلة من الإيرادات الوطنية.

وبالفعل، فمن خلال تصدّيهما لمساعي الإصلاح الجادة، فشل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» في استئصال الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية في الداخل، وللتخفيف من حدة هذه المشاكل، يتطلب من كلا الطرفين وقف لعبة إلقاء اللوم والتركيز بشكل عاجل على التغييرات الملموسة، بدءاً من تخليص القوائم الحكومية من الازدواج الوظيفي والموظفين «الوهميين»، وصولاً إلى إنهاء الممارسة التي يطالب فيها نشطاء الحزب بحصة 30 إلى 50 في المئة في أي شراكة مع شركات القطاع الخاص.

كما أن نجاح «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» في تقويض أحزاب المعارضة بالتهديد وشراء الذمم أدى إلى تفاقم التهاون المستمر منذ زمن بعيد تجاه الإصلاح، وباستثناء حفنة من النواب الأكراد الذين لا يتوانون عن التعبير عن مواقفهم في مجلس النواب الوطني، أصبحت المعارضة حالياً تقتصر إلى حد كبير على بث الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي.

وحتى أن السلطات الكردية ألّبت أطرافاً خارجية ضد بعضها، وضغطت على واشنطن وإيران للتدخل لصالحها في بغداد، والأهم من ذلك أعطت الأولوية لجهود حماية قطاعها النفطي من الرقابة الاتحادية مستفيدةً من وضعها المميّز في تركيا، التي تُعتبر الراعي الرئيس لصادرات النفط من «إقليم كردستان العراق».

ومع ذلك، آلت جميع هذه الاستراتيجيات إلى نهايتها وبشكل كارثي، وبخلاف معترك السياسة الوطني في العراق، حيث قد يكون موضع المساءلة بعيد المنال، تُعزى مسؤولية إجراءات القمع والعنف الحكومية في «إقليم كردستان العراق» إلى أطراف واضحة ومعروفة، وهي تحديداً قيادة «الاتحاد الوطني الكردستاني» في السليمانية، وقيادة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في أربيل ودهوك. وفي الوقت الحالي، تدور الاحتجاجات في المقام الأول حول الرواتب لا الإطاحة بـالحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني من السلطة، ولا يمكن لأي من الطرفين أن يعزو غضب الجماهير بشكل موثوق حول قضية تمس بلقمة عيشهم- التي يشعر بها المرء في كل أسرة- على فصائل المعارضة، أو الأجندات الأجنبية، أو «الطابور الخامس»، أو المؤامرات المعلّبة الأخرى، وكما يعلم مسؤولو «إقليم كردستان العراق» بلا شك، بأن احتجاجات العام الماضي في أجزاء أخرى من العراق بدأت بالمثل بالمظالم على الوظائف، ثم توسّعت بسرعة في مواجهة العنف الغاشم من قبل القوات الحكومية والميليشيات، وبلغت ذروتها في مطالب جماهيرية لإصلاح سياسي واسع وقيادة جديدة.

التداعيات السياسية

من الناحية النظرية، يمكن للأدوات المعتادة التي تستعملها حكومة إقليم كردستان- كالرسائل الشعبية، والإجراءات الأمنية، وإرسال وفد بأسرع زمن ممكن إلى بغداد- أن تكسب بعض الوقت بوجه جولة الاحتجاجات الحالية، ومع ذلك ونظراً لعجز حكومة إقليم كردستان الذي لا يمكن تحمّله في شؤون الحكم، فليس بإمكانها تحمّل دفن رأسها في الرمال بعد الآن، بل عليها أن تضع وتقدم لشعبها طريقة موثوقة للخروج من الأزمة المالية، وأن تبذل المزيد من الجهود للتوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق مع بغداد. وهناك أصوات تطالب بالإصلاح في القيادة الكردية، لكنها بحاجة إلى مزيد من الدعم من قبل المسؤولين الذين يتمتعون بالسلطة، ويمكن للقطاعين العام والخاص على حدٍ سواء المساعدة في تحفيز «حكومة إقليم كردستان» على التوقف عن كونها مجرد آلة نقدية للرواتب واستئناف دورها كمحرك للانتعاش الاقتصادي.

علاوة على ذلك، يجب على جميع الأطراف الاعتراف بأن واشنطن لا تستطيع إنقاذ «إقليم كردستان العراق» من مشاكله الذاتية، وعلى الرغم من أن العديد من المسؤولين الأميركيين يفضلون الابتعاد عن انتقاد أصدقائهم الأكراد علانية، فإن الصمت في هذا الوقت سيكون مدمراً، وبدلاً من ذلك، يجب على واشنطن أن تقف مع مطالب الشعب الكردي من أجل قيام نظام اقتصادي مسؤول وشفاف ومتجاوب، والأكثر أهمية، يجب على المسؤولين الأميركيين التنديد بوضوح وبصورة علنية بأي عنف في «إقليم كردستان العراق» ضد المتظاهرين، ويمكن لمثل هذه الرسائل أن تقطع شوطاً طويلاً نحو منع المزيد من العنف وتثبيط التكتيكات التضليلية، ومع ذلك، يمكن تفسير الصمت على أنه إذعان أميركي.

وفيما يتعلق بالخلافات بين «حكومة إقليم كردستان» وبغداد بشأن النفط والمسائل المالية، ترفض واشنطن الاضطلاع بدورها القديم في التوسط في المفاوضات، لكن لا يزال بإمكانها دفع كلا الطرفين نحو حلول وسط مثمرة في مناقشات ميزانية 2021، وهنا تشكل المساعدة التقنية في تدقيق أنظمتها المالية غير الشفافة نقطة انطلاق جيدة.

ولكن في الوقت الحالي، تقف «حكومة إقليم كردستان» على حافة الهاوية المالية ولا يمكنها الانتظار إلى أن تتبنى بغداد موقفاً أكثر وديةً أو إلى أن تتعافى أسعار النفط، لأن بقاءها بحد ذاته معرّض للخطر بالفعل وليس بسبب الاحتجاجات.

● وهاب- واشنطن إنستيتوت