وثيقة لها تاريخ: «الكتاب الأبيض» وثيقة سياسية بريطانية لتحديد مستقبل فلسطين عام 1939م
في 11 سبتمبر 1922م، أقرت عصبة الأمم تولي بريطانيا الحكم في فلسطين وشرق الأردن فيما أطلق عليه "الانتداب البريطاني"، الذي استمر من ذلك العام إلى عام 1948، عندما تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. وقد خَلَف الانتداب البريطاني لفلسطين الحكمَ العثماني الذي امتد قروناً عديدة تعايش فيها العرب (مسلمون ومسيحيون) مع اليهود تحت قيادة عثمانية وفرت للطرفين العيش بسلام وممارسة حقوقهم بشكل تام.وقد مرت فلسطين خلال الانتداب البريطاني بأحداث وتطورات كثيرة سعت فيها بريطانيا إلى إقرار حل سلمي يتعايش فيه العرب واليهود، ويعطي لكل طرف حقوقاً واضحة ووضعاً إقليمياً أو كياناً مستقلاً. إلا أن الكثير من الجهود التي سعت لها بريطانيا لم تسفر عن نجاح، وخاض العرب واليهود الكثير من الصراعات العنيفة حتى قبل عام 1948. وعندما لاح شبح الحرب العالمية الثانية في الأفق القريب وبدأت القوى العظمى الاستعداد لخوضها، قررت بريطانيا أن تعطي قرارها النهائي لحل مشكلة العرب واليهود في فلسطين، فأوعزت إلى وزير المستعمرات مالكوم مكدونالد لتقديم رؤيته لحل المشكلة. وبعد فترة قصيرة من الزمن، أصدرت الحكومة البريطانية بياناً طويلاً يعكس رؤيتها لحل المشكلة، وجاء هذا البيان في شكل تقرير من 15 صفحة، تم إرسال نسخ منه إلى العديد من الزعماء العرب. هذا التقرير، الذي أطلق عليه اسم "الكتاب الأبيض"، رفضه العرب ورفضه اليهود أيضاً، ولم يكن له صدى في الواقع.
وقد عثرت على نسخة من الكتاب الأبيض في سجلات وملفات المكتبة البريطانية، من خلال البحث في مكتبة قطر الإلكترونية، وأجد أنه من المفيد مشاركة القراء الكرام بعض المعلومات الواردة فيه على حلقات متتالية، نبدأ اليوم بالقول إن التقرير في بدايته أوضح أن الدافع وراء إصداره هو أن العرب واليهود لم يتوصلوا إلى مواقف مشتركة، رغم انعقاد عدة مؤتمرات في عام 1938، ولذلك رأت الحكومة البريطانية أن تضع موقفها في وثيقة سياسية وتقدمها لجميع الأطراف عام 1939، لعلها تكون قاعدة ينطلقون منها للوصول إلى حل. يقول الكتاب الأبيض في صفحته الأولى: "وقد وضعت حكومة جلالته، على ضوء المباحثات المشار اليها والحالة السائدة في فلسطين وتقرير اللجنة الملكية وتقرير لجنة التقسيم، بعض المقترحات وعرضت تلك المقترحات على وفود العرب واليهود كأساس لتسوية متفق عليها. غير انه لم تر وفود العرب ولا وفود اليهود ان في استطاعتها قبول تلك المقترحات، ولذلك لم تسفر المؤتمرات عن اتفاق. وبناء على ذلك ترى حكومة جلالته نفسها حرة في وضع سياستها الخاصة". وقد صدر الكتاب الأبيض ليلخص الموقف البريطاني، ويطلب من العرب واليهود العمل على تنفيذه، ولكن ذلك لم يحصل أبداً. في المقال المقبل سنتحدث عن أهم ما ورد في الكتاب الأبيض، وسنرى كيف تغير الوضع بشكل عام، وكيف انحرف المسار، وتغيرت المواقف.