السوشيال ميديا بين سندان «الأُنس» ومطرقة «الفشيلة»
يقول نجيب محفوظ: "الأخلاق ليست فقط نظاما للتعامل بين الناس، ولكنها هي التي تنظم المجتمع وتحميه من الفوضى". إن أشد ما نفتقر له اليوم هو أخلاق وقيم أجدادنا، لا أتكلم عن العادات والتقاليد، إنما عن تلك البذرة التي كلما هممت بفعل خاطئ، أبقتك يقظا لا تعرف للنوم سبيلا! تلك البذرة زرعتها فيك التربية الطيبة، وساهم الوازع الديني بداخلك في سقايتها، ومن ثم نمت شجرة خضراء تظلك، وتقيك من شرور نفسك وشرور من حولك.ثم جاءت السوشيال ميديا لتقلب موازين كل شيء، نسفت الموروثات والقيم وكل شيء كان يقيد إمكانية "انفلاتك" أو سوء سريرتك! صار سهلا عليك الرقص في "التك توك" وسهلا عليك استعراض نفسك في "السناب" ويسيرا عليك جدا فضح أقرانك ومن تعرف في "الإنستغرام"، صار السوشيال ميديا "منبراً" نشفي فيه غليلنا، عندما نفلس من آذان تصغي إلينا أو حضن يحتوي جنوننا. صرنا نلجأ لمواقع التواصل الاجتماعي فنجد فيه من يفرغ فيها همومه ومشاكله، وآخر يجاهر بذنوبه متباهياً بآثام أراد توزيع حملها على متابعيه.
الأدهى من ذلك كله أنه حتى أنت أيها القارئ المتواضع، وجدت في تلك المواقع فرصة لك لتنهي علاقة ما أو تحظر أخرى. في كل بيت وأسرة صار "الأنفولو" و"البلوك" واسطة سد الباب وقطع الأرحام! تطوف بنا الأيام دون أن نستشعرها، تجرنا هذه البرامج لحفرة لا خلاص منها، ننشغل مع أخبار المشاهير، و"النيو لوك والتتوريال" إلى أن نقف عند من يستنجد بمتابعيه بمصيبة شخصية! وآخر يتباكى على طلاقه علنا، وأم تبكي عقوق ابنتها! باتت السوشيال ميديا باختصار بابا مجردا مشرعا يدعوك إلى أهله وداره دون حاجة للوثوق بك أولا، أصبحت مقولة "للبيوت أسرار" رثة! نضحك عليها في زمن حب الفضيحة والشر! وأصبح التستر على عثرات الآخرين استثناء لا يواكب عصر "كن بلا مبدأ تكن مشهورا". ولا عزاء لنا في جيل اعتاد على أن الفضيحة "سلاح" يبتز به من يريد، وأن المجاهرة بالخطأ "قوة وفرد عضلات" وأن الانحطاط "لايف ستايل"، وأنه لا رادع في زمن أباح المحظور والفشلة، لا عزاء لنا في جيل كبر وآمن أن الحياة "سمردحة" لا قانون ولا عرف يكبح جماح جنونه، وعند السوشيال ميديا ينسى أهله واسمه وبيته وسمعته في سبيل الشهرة والمال و"الأُنس" البائس! كلمة لكم: تعوذوا بالله من حب المال والشهرة فإنها تجركم للتعري كي يتسلى بكم الفارغون، ثم ما إن ينشغلوا عنكم، حتى تبقوا أنتم وعريكم تاريخا لا يمحوه مالكم! بل تبقون مجرد رواية خزي وعار يحكيها أحفادكم.