في مواجهة جائحة كورونا 2019، كان أداء العديد من المناطق سيئاً، لكن أداء أميركا اللاتينية كان أسوأ من معظمها، من حيث الخسائر في الأرواح، وسُبل العيش التي فُقدت.

واعتباراً من نوفمبر الماضي، أُدرِجَت 9 بلدان من أميركا اللاتينية ضمن قائمة الـ 20 دولة التي سجلت أعلى معدل للوفيات بالفيروس، نسبة إلى تعدادها السكاني، وتوقّع صندوق النقد الدولي أن ينخفض إنتاج المنطقة بنسبة 8.1 في المئة عام 2020، حيث لا تعاني سوى منطقة اليورو فقط انخفاضاً إقليمياً يفوق هذه النسبة، ونتيجة لذلك، سيضاف نحو 15 مليون أميركي لاتيني إلى من يعيشون في فقر مدقع.

Ad

التفسير الأول الذي يتبادر إلى الذهن أن ضعف الأداء في المنطقة هو ضعف القيادة، حيث ادّعى الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، في البداية، أن الجائحة كانت مجرد خدعة إعلامية، أما الرئيس المكسيكي أندريس أوبرادور، فقد استمر أسابيع ينفي أن «كورونا» يمثّل تهديداً، واستمر في معانقة المؤيدين ومصافحتهم، فقط ليعكس المسار فجأة ويفرض إغلاقاً صارماً، ولكن حتى في البلاد التي تصرفت مبكراً، كانت تدابير الاحتواء غير فعالة في تقليل عدد حالات «كوفيد 19»، حيث عانت الأرجنتين وبيرو، اللتان طبّقتا إجراءات إغلاق صارمة جداً، وتشيلي وكولومبيا، اللتان اتبعتا نهجاً أكثر مرونة، من نتائج صحية مزرية مماثلة.

ويرجع جزء من الأسباب وراء ذلك إلى أن نقطة انطلاق أميركا اللاتينية كانت أبعد ما يكون عن المثالية، إذ يعاني عدد ضخم من السكان مشاكل صحية موجودة من قبل، كما أدى انتشار الترتيبات المعيشية التي تجمع أجيالاً متعددة في مكان واحد إلى تسهيل انتقال العدوى، وإصابة الأشخاص الأكثر عُرضة للخطر، كما أن أسواق العمل غير الرسمية الكبيرة جعلت فرض عمليات الإغلاق مهمة صعبة التنفيذ، كما أن ارتفاع معدل الوظائف التي تتطلب التعامل بين الأفراد وجهاً لوجه، بما في ذلك البيع بالتجزئة، وندرة فرص العمل عن بُعد (بسبب ضعف الشبكات وانخفاض مستوى المعرفة الرقمية) لم يساعد أيضاً، أضف إلى ذلك أن نقص كفاءة الحكومات ترك النظم الصحية غير مستعدة، على الرغم من تنفيذ عمليات الإغلاق المبكرة التي أخّرت الوصول إلى ذروة العدوى.

لا شيء من هذا كله يبرر حقيقة مفادها أن العديد من صانعي القرار لم يبذلوا سوى القليل من الجهد، وبعد فوات الأوان، لكنه يساعد في تفسير سبب تحقيق استراتيجيات مختلفة لنتائج مماثلة، ويُظهر أداء أوروغواي، قصة النجاح الوحيدة في المنطقة، ما كان يمكن أن يحققه مزيج من الوصول الشامل للرعاية الصحية، وزيادة الإشراف والإدارة الرسمية لأسواق العمل والحماية الاجتماعية، وقدرات الدولة القوية نسبياً، والقيادة الحكيمة، لجميع دول أميركا اللاتينية.

صدمة اقتصادية

تسببت أزمة «كوفيد 19» في إلحاق أضرار اقتصادية ضخمة بأميركا اللاتينية، لأسباب ليس أقلها أن المنطقة عانت خمس ضربات متزامنة، وبصرف النظر عن الصدمة الصحية الأولية، فقد تضررت الاقتصادات من انخفاض أسعار السلع الأساسية، والانخفاض الكبير في حجم الصادرات، وخسارة التحويلات من الخارج وعائدات السياحة، وتدفقات رأس المال غير المسبوقة إلى الخارج في وقت مبكر من الأزمة، ونتيجة لذلك نفدت السيولة النقدية من العديد من الشركات الكبيرة والصغيرة واضطرت إلى الإغلاق.

وعزز التعافي الاقتصادي السريع في الصين منذ ذلك الحين أسعار السلع الأساسية، وانتعشت التحويلات من الخارج أيضاً، لكن الصورة الحالية لتدفقات رأس المال لا تزال مختلطة؛ ففي حين تمكنت أميركا اللاتينية من تجنب حالة ذعر طويلة الأمد، عادة ما تُعادل التدفقات الخاصة إلى الخارج تأثير التدفقات الداخلة من توزيع السندات الحكومية في الخارج، ومن المحتمل أن تحقق المكسيك فائضاً في الحساب الجاري عام 2020، حيث تقترب أميركا الجنوبية كلها من تحقيق التوازن، في حال بقاء ظروف التمويل الخارجي مستقرة.

ويشير أداء الحساب الجاري أيضاً إلى أن الإنفاق المالي المعاكس للدورة الاقتصادية من حكومات أميركا اللاتينية، لم يكن كافياً لتعويض الانخفاض في الاستهلاك الخاص والاستثمار، وفي الوقت الذي طبقت الحكومات في الاقتصادات المتقدمة مجموعة واسعة من التدابير المالية التقديرية التي تصل إلى 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، يضع صندوق النقد الدولي النسبة المقابلة في أميركا اللاتينية عند 7 في المئة، حيث وظّفت 4 بلدان فقط (بيرو والبرازيل وتشيلي وبوليفيا) حزماً يبلغ مجموعها 10 في المئة أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الرقم يشمل القروض والضرائب المؤجلة، إضافة إلى الإنفاق العام الإضافي.

كان بإمكان بعض البلدان، مثل المكسيك، أن تزيد إنفاقها، لكنها اختارت عدم القيام بذلك، في حين افتقرت العديد من البلدان الأخرى إلى المرونة المالية، أو كانت غير قادرة على دخول أسواق رأس المال بمعدلات معقولة.

وفيما يخص الوظائف، تُعد التوقعات في أميركا اللاتينية محبطة أيضاً، فرغم تطبيق برامج الإجازات الحكومية التي لا تزال تموّل تعليق التوظيف المؤقت، وتحد من القضاء على الوظائف ذات الأجور المنتظمة، انخفض التوظيف بنسبة تتراوح بين 10 و25 في المئة (في ليما، وهي حالة متطرفة، انخفض معدل التوظيف بأكثر من 50 بالمئة في يونيو الماضي)، واعتباراً من سبتمبر، انخفض عدد العاملين في المنطقة كلها بأكثر من 25.3 مليون فرد منذ بداية الجائحة، مع تأثر النساء والشباب بهذا الانخفاض على نحو غير متناسب، وعانى الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 24 عاماً أكبر الخسائر في وظائفهم، إذ تراوحت نسبتهم بين 5 في المئة بالمكسيك و44.4 بالمئة في تشيلي.

علاوة على ذلك، لن «يعود الوضع إلى طبيعته» بعد الجائحة، ففي الغالب ستعمل الرقمنة (التحول الرقمي) والوسائل الحديثة على خفض الطلب على الوظائف التي تتطلب اتصالاً مادياً مكثفاً مع الآخرين، وستدفع الشركات إلى أتمتة عملياتها وتبسيطها على حساب الوظائف.

بنية هشة

بشكل عام، أفصح أداء أميركا اللاتينية الضعيف خلال فترة الجائحة عن أوجه قصور متفشية في قدرات الدولة، والتي تمتد إلى ما هو أبعد من الأنظمة الصحية الواضح ضعفها في المنطقة، إذ افتقرت بعض الحكومات إلى المعلومات اللازمة لتحديد الأسر الفقيرة وتزويدها بالمساعدة المالية؛ في حين حصلت دول أخرى على مثل هذه المعلومات، ولكن لا يمكنها سوى تحرير شيك بدلاً من تحويل الأموال إلكترونياً.

وربما ساهمت قوائم الانتظار والطوابير الناتجة عن هذا العجز الإلكتروني خارج فروع البنوك في انتشار الفيروس، وبعد فترة طويلة من إعادة فتح المدارس في أوروبا وآسيا، ظلت الفصول الدراسية في معظم أميركا اللاتينية مغلقة، بسبب الصعوبات اللوجستية المستمرة، وهذا يضيف آثاراً سلبية دائمة، من حيث المهارات، إلى التدمير المستمر للوظائف، خصوصاً بين الأسر ذات الدخل المنخفض.

وتتمثل نقطة ضعف بنيوية أخرى في سوق العمل المزدوج في أميركا اللاتينية، الذي يعرض العمال ذوي الدخل المنخفض لصدمات الدخل على نحو غير متناسب، فنحو نصف العاملين في المنطقة هم من أصحاب الأجور غير الرسمية، أو يعملون لحسابهم الخاص من دون شهادة جامعية؛ في بوليفيا ونيكاراغوا وباراغواي وبيرو، أكثر من ثلثي العمال غير مسجلين رسمياً، وأثناء عمليات الإغلاق، اعتمد الكثير من هؤلاء العمال على التحويلات النقدية الحكومية التي لم تعوّضهم إلا عن جزء فقط من دخلهم المفقود، لعدم قدرتهم على الاستفادة من المعاملات الرسمية مثل إعانات الأجور وبرامج الإجازات.

في المقابل، تقدم العديد من دول أميركا اللاتينية أوجه حماية سخية للعاملين ذوي الأجور المرتفعة، إذ قدمت كولومبيا إعانة تعادل 40 في المئة من الحد الأدنى للأجور لجميع الوظائف الرسمية في الشركات التي تعرّضت لخسائر بالإيرادات، بل ذهبت حكومة الأرجنتين إلى أبعد من ذلك، إذ ضاعفت مدفوعات إنهاء الخدمة، وفي النهاية حظرت تسريح العمال تماماً، لكن هذه الحماية تذهب إلى أقلية من الموظفين الرسميين، في حين يظل معظم العمال غير الرسميين والمستقلين من دون حماية، فكانت العواقب المترتبة على ذلك واضحة ومؤلمة في النصف الأول من العام الحالي، إذ انخفض دخل أبناء الطبقات العليا بنسبة أقل كثيراً من انحدار دخول الأشخاص القابعين أسفل الهرم الاجتماعي.

مزيد من المتاعب مستقبلاً

تُعد أزمة «كوفيد 19» بمنزلة فرصة لحكومات أميركا اللاتينية من أجل تقوية الدولة، وإصلاح أسواق العمل المختلة، وتسريع عملية البحث عن عقد اجتماعي جديد، وهذا يعني إعادة التفكير في سُبل الحماية الاجتماعية (بما في ذلك التحرك نحو التغطية الصحية الشاملة)، وتذليل العقبات أمام التوظيف الرسمي، وتعزيز استقرار دخل العمال المستقلين، لكن التغييرات الضرورية صعبة سياسياً. فسرعان ما تزعج عمليات إعادة هيكلة الهيئات الحكومية وقواعد سوق العمل أصحاب المصالح الراسخة القوية، وهذا هو السبب في بقاء الحكومات، سواء من اليمين أو اليسار، حتى الآن على مسار يتسم بأقل قدر من المقاومة.

ومع استعداد الكثير من دول أميركا اللاتينية لإجراء انتخاباتها المقررة في عام 2021، فالمسألة الحاسمة هي ما إذا كان المناخ السياسي الإقليمي سيتحسن أو يزداد سوءاً في أعقاب الجائحة، ومن شأن الأزمات أن توحد المواطنين، لكن الجائحة زرعت أيضاً العديد من الانقسامات: بين المهنيين المحترفين القادرين على العمل من المنزل وعمال المصانع الذين لا يستطيعون ذلك، وبين كبار السن الضعفاء والشباب الخاضعين لقيود حكومية، وبين العمال الرسميين الذين يتلقون إعانات للأجور، والعاملين لحسابهم الخاص الذين فقدوا كل دخلهم.

ربما يسير منحنى انتشار عدوى الفيروس بأميركا اللاتينية في طريقه إلى الاستقرار، لكن منحنى الفقر وإفلاس الأعمال هناك مستمر في الارتفاع، وإذا أعقبت صدمة الصحة العامة أزمة اقتصادية مطولة تطحن العديد من الناس في طريقها، ستتزعزع الثقة بالحكومة والمؤسسات بشدة، وستصبح السياسة أكثر انقساماً.

باختصار، لا يزال من الممكن أن تتحول جائحة «كوفيد 19» إلى جائحة عدم استقرار ويأس.

* ماوريسيو كارديناس، وزير مالية كولومبيا الأسبق، وكبير زملاء مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا، وإدواردو ليفي ياياتي كبير الاقتصاديين السابق في البنك المركزي الأرجنتيني، وعميد كلية الإدارة الحكومية في جامعة توركواتو دي تيلا، ومدير هيئة التدريس بمركز السياسات القائمة على الأدلة، وكبير زملاء غير مقيم في معهد بروكنغز، وأندريس فيلاسكو مرشح رئاسي سابق ووزير مالية تشيلي سابقاً، وهو أستاذ السياسة العامة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

بروجيكت سنديكيت