عندما كان تعليم الكتاتيب (المطاوعة والملالوة) سائداً في ماضي الكويت، خَرّجت هذه المدارس الأهلية نخبة من الشباب الكويتيين إلى سوق العمل، وأخذوا طريقهم لدى مكاتب التجار، سواء داخل الكويت أو عبر السفر إلى بومباي وكراتشي وعدن والبصرة لإدارة مكاتب التجار الكويتيين في الخارج، وكان لدى معظمهم أسلوبه وخطه الجميل عند الكتابة، وكتبوا الرسائل التجارية والشخصية التي تعد الآن من الوثائق المهمة في تاريخ الكويت لأهمية المواضيع التي تطرقت إليها، وخلال مزاولتهم تلك المهنة تعلموا فنون المعاملات التجارية بكل أشكالها، وامتلكوا خبرة كبيرة، وعند عودتهم لأوطانهم صاروا تجاراً كباراً ينافسون من عملوا عندهم!

لا أود الإطالة في هذا الجانب، لكن يهمني هنا تسجيل بعض الذكريات المتعلقة بخصوص الرسائل، ففي نهايات الخمسينيات عندما كان والدي يصطحبني معه إلى السوق، كنت أشاهد خارج مكتب بريد الصفاة وعند مدخل الشارع الجديد أناساً من جنسيات عربية جالسين على الأرض وأمامهم صندوق (سحارة) وعليه "دستة" لكتابة الرسائل وأقلام، وبجانبهم أناس بسطاء جداً أيضاً جالسون على الأرض وجلّهم من الجنسيات العربية ويمْلون على صاحب هذه المهنة ما يودون ذكره لمراسلة أهاليهم وأصدقائهم، وقد يستغرق الوقت ما بين الإملاء والكتابة مدة طويلة وتمتلئ صفحات متعددة لأنه كلما تَذَكر صاحب الرسالة أمراً أفضى به وقد يكون الكلام المرسل أسراراً خاصة جداً!

Ad

استغربت وضع هؤلاء، وسألت والدي: "ليش هذول ما يعرفون يكتبون؟!".

قال: غير دارسين، وهذه نتيجة الجاهل غير المتعلم الذي لا يعرف القراءة والكتابة!

حفزني الأمر للانكباب على الخربشات في الكتابة والمطالعة في أي موضوع؛ خوفاً من أن يكون مصيري مثل هؤلاء!

في بداية الستينيات، كانت لديّ هواية المراسلة، ولا أخفي سراً أنني كنت أنشر صوري في ركن التعارف بالمجلات العربية الصادرة من لبنان ومصر، وأضيف للهواية اهتمامات أخرى مثل جمع طوابع البريد، إذ كان ينهال على صندوق بريد والدي رسائل من مختلف الدول العربية وهي "ملغومة" بكميات كبيرة من الطوابع، فأبادل مرسليها بالمثل بإرسال الطوابع الكويتية.

ومن الأمور الطريفة التي قرأتها في رسائلهم أن بعضهم يطلب مبالغ نقدية لمساعدته، وآخرين يرغبون في زيارة الكويت، وخصوصاً للعمل!

كانت الرسائل تصل إلى صندوق بريد والدي بالعشرات كل أسبوع، وعند ذهابه يستغرب كثرة الرسائل التي طغت على رسائله المهمة الرسمية، والأهم في الموضوع افتضاح أمري عندما قرأ الأسماء التي على ظهر الرسائل وكثير منها نسائية! فعاتبني بشدة، وقال: "التفت لدروسك واترك عنك هالخرابيط"!

المطبوعات أعلاه من مجموعتي الخاصة، وتعرف في الماضي بـ "الدستة" والجمع "دستات"، وتستخدم لكتابة الرسائل، ومنها أحجام، وكانت تطبع في الكويت وعليها صورة الشيخ عبدالله السالم لترغيب المشتري، وثمن الواحدة روبية، أي ما يعادل ٧٥ فلساً، وأخذ يتهافت على جمعها الآن الهواة، وصار ثمنها عشرات الدنانير!

د. عادل العبدالمغني