يوم لها وكل الأيام عليها
انتشرت العبارات على وسائل التواصل الاجتماعي احتفاء بيوم اللغة العربية، كثيرون راجعوا أبيات الشعر وكثيرها هو نفسه المردد منذ سنين، وآخرون كانوا أكثر إبداعا في البحث وغيرهم تغنوا بلغة حية جدا هي لغة 422 مليون إنسان، وهي اللغة الرابعة من حيث الانتشار بعد الإنكليزية والصينية والهندية، وهي أيضا لغة الضاد لأنها اللغة الوحيدة التي تحمل هذا الحرف. ولكن هناك خطر يهددها بحسب الأمم المتحدة والمجمعات اللغوية ألا وهو انتشار العامية على حساب الفصحى، هذا ما قاله كثيرون قبل أيام عندما ضج الثامن عشر من ديسمبر بالاحتفالات الافتراضية طبعاً، والتي التزمت التباعد الاجتماعي ولبس الكمامات! ولكنها انتهت دون كثير من الضجة، وأسدل الستار ككثير من الاحتفالات والأيام طوال العام، بمجرد ما أعلن اليوم نهايته المبكرة فـ"عتمت" الدنيا مساء، وذهب الكثيرون إلى سهراتهم أو جلساتهم التلفزيونية يغمرهم إحساس شديد بالراحة لأنهم مجدوا واحتفلوا بلغتهم الأم ولغة القرآن وكفى! نفسهم أو كثير منهم لم يرق إلى الوقوف عن أصل انهيار اللغة أو لم يطرحوا السؤال الحقيقي، وهو: هل لغتنا الجميلة إلى زوال في زحمة العامية أو زحف اللغات الأخرى مثل الإنكليزية لتكون هي لغة المتعلمين من الأبناء والبنات؟ ولمَ يبدو المشهد اليومي أن كثيراً من التحضر لدى البعض هو الحديث بلغة أخرى غير العربية؟ في صباح اليوم نفسه قال هو للنادل قبل أن يطلب قهوته و"الكروسون باللوز" "صباحك خير" فرد النادل بكثير من الاعتياد "بونجور" أو "غود مورننغ"، لم تعد كلمة "صباح الخير" أو "مساء الخير" هي الأكثر انتشاراً بين الأجيال، والمثير للضحك، بل ربما للحزن أن كثيرين لا يجيدون اللغات الأخرى التي يفضلون الحديث بها عن العربية.
كم جميل أن تقول في وداع أحدهم "يومك سعيد" بدلا من "باي" المختصرة، وكأن الكلمة تتعب والنطق يتعب أكثر والعربية لا تمثل "التمدن" الحالي وهو في كثيره زائف أو على أقل تقدير سطحي جدا، وفي أحد الاجتماعات الافتراضية قبل أسابيع كان اللقاء باللغة الإنكليزية، فقالت إحدى المشاركات: "هل لي أن أعرف لماذا نتحدث الإنكليزية وكل المشاركين عرب؟" لم يأتها الجواب، بل لم يهتم أحد لسؤالها، وكأن المعتاد أن تكون الاجتماعات "البروفشينال" باللغة الإنكليزية أو أي لغة أخرى إلا العربية. أحد "المهضومين" قال العربية للشعر للمساءات الحالمة "للشعر أو الغزل ولكنها ليست لغة للعلم والعمل"، (عجبي) كيف يكون ذلك وكل العلوم بدأت بها ومن عندها وهي لا تزال لغة ملايين البشر في أكثر من 22 دولة، بل دول مجاورة للدول العربية؟ وحتى لو لم تكن كذلك فاللغة تعيش وتموت بناطقيها والمحافظين عليها والباقين على جمالاتها والعارفين أسرارها، وهي عملية تبدو صعبة إلا أنها سهلة جدا لو كانت المدارس والجامعات مراكز للعلم والتربية، كما كانت "أيام زمان"، أم أنها تحولت إلى "بوتيكات" ومحلات تجارية لكل حرف سعر فيها، ولكل درس كذلك، فقد سقطت اللغة العربية سهواً أو ربما عمداً من أولويات العاملين على المناهج التربوية والجالسين على الكراسي في مكاتب الوزارات والجهات المختصة التي عليها مهمة أكثر صعوبة وأهمية من الجيوش الحامية للحدود ومن الأجهزة الأمنية الواقفة عند حافة الحرف، أو الكلمة التي تنشر على صفحات التواصل الاجتماعي أو تردد في جلسات الرفقة الحميمية لأن "الحيطان لا تزال لها أذان"! مجرد أن انطفأت أضواء الثامن عشر من ديسمبر عادت العربية إلى الأدراج وأرفف المجمعات العلمية حيث الكتب يعلوها التراب، وفي لحظة يبدو أن اللغة مهددة بذاك الكم من التراب والغبار الذي لن ينجلي إذا بقيت هي حبيسة اليوم الخاص بها وغاصت طوال ايام العام الأخرى، في متاهات العاميات من اللهجات أو التعالي بالتشبث بلغات أخرى لأنها ترفع من قيمة المتحدث ربما!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية