ما إن جلس الشيخ زكريا البري على كرسي المحاضرات وشبك يديه على الطاولة، استعداداً لبدء المحاضرة عن "المدخل الفقهي العام"، حتى رفع الطالب ناصر صباح الأحمد يده، سائلاً أستاذ الشريعة: "شيخ... شيخ... لو تكلمنا عن عقد النكاح... ما هي شروطه؟ ماذا تقصد به؟".

لم يكن منهج الزواج والفرقة بين الزوجين مقرراً لطلبة سنة أولى كلية الحقوق والشريعة، بل كان ذلك المقرر للسنة الثانية، لكن الطالب ناصر أراد المشاغبة وإدخال روح المرح في قاعة المحاضرات.

Ad

توقف الشيخ زكريا قليلاً، معقباً على مشاغبات ناصر: "... بعدين معاك يا ناصر... شمعنى دي في راسك؟". وخرج أستاذنا زكريا عن المنهج المقرر، ليتكلم قليلاً عن "عقد النكاح"، وسط ابتسامات بهجة وضحك مكتوم بين الطلبة حطمت روتين وسأم المحاضرة.

في الاستراحة بين المحاضرات... نسارع إلى سيارة الشيخ ناصر، كانت مرسيدس سوداء وفيها "لاسلكي... لزوم الكشخة"– أتذكر أنه قال لنا إنها كانت تخص والده وزير الخارجية، ذلك الوقت، الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، ونذهب إلى مطعم هندي قريب، لنلتهم "سمبوسك وسندويشات بطاط وقطع باذنجان غارق في الدهن"... كنا نحن الأربعة: المرحوم ناصر، والمرحوم عصام العيسى، وعدنان الحنيف، ونلتقي هناك بالصدفة عند باب المطعم الصغير بالمرحوم صقر الرشود ومعه بعض زملاء كلية التجارة والاقتصاد، كنا ندرس ذلك الوقت، في مبنى واحد بمنطقة العديلية... كان ذلك في العام الدراسي 68 - 69، سنوات الرفض وثورة الطلبة في فرنسا.

مضت تلك الأيام الجميلة سريعاً... وأخبرنا ناصر في أحد الأيام بأنه سيترك الكلية وسيذهب في رحلة للسودان، وسألنا: "ماذا تريدون أن أحضر لكم هدايا (سوقه) من هناك؟". طلبت منه أن يُحضر معه فيلاً أو فيلين صغيرين... دعاية... نضعهما كنصب تذكاري في ساحة الكلية.

جرت السنون مسرعة تلتهم بنهم من أعمارنا، لم نعد نلتقي، إلا في مناسبات قليلة، وقبل أعوام، حين أصبح ناصر وزيراً للديوان الأميري جاءني طلب منه لنلتقي في قصر بيان.

قال لي في اللقاء: "... حسن أنا أعمل بالتجارة، ولكني مهموم بمستقبل وطني... ماذا نعمل وأمامنا مئات آلاف الخريجين القادمين لسوق العمل؟ كيف نوفر لهم الوظيفة؟ وأي قطاع حكومي نتصوَّر أنه يمكنه أن يستقبل تلك الأعداد الضخمة؟ وكيف نوفر لهم الرواتب والحياة الكريمة؟ لابد من مصدر آخر للدخل العام وقطاع خاص يمكن أن يستوعب الخريجين القادمين...".

كان يخطط ويعمل من مكانه من أجل رؤية الكويت 2035 (وهي رؤية الأمير الراحل والده الشيخ صباح). كان يحلم بمنطقة تطوير منطقة الشمال، كميناء مبارك وجزيرة بوبيان، كان يرى أنها ستكون منطقة جذب استثماري، وتوفر فرص عمل لأبنائنا وبناتنا.

كان حلماً كبيراً... أضحى اليوم مكاناً تصطف فيه بقالات سيارات نقل متهالكة تبيع السجائر والفحم و"ككاو" حزر تغطيه أتربة عجلات سيارات الزائرين للمكان. كان خيالاً مبدعاً لناصر انقلب كابوساً مرعباً.

وللحديث بقية مع الراحل الشيخ ناصر صباح الأحمد... لندعه يرتاح في قبره بعد عذاب طويل مع مرض السرطان، وتعرض، قبل ذلك وأيضاً مع مرضه اللعين، لشقاء أكبر تجرعه وتحمله بمرارة وصبر شديدين في عمله السياسي... لماذا؟ ماذا فعل وأي ذنب ارتكبه كي يدفع ضريبة ذلك الهم الكبير؟! ارتح أيها الصديق... تعبت وأتعبنا حزننا عليك... خسارة.

حسن العيسى