آخر المستجدات في قضية نافالني تُصعّب موقف الكرملين
حين انتشر خبر تسمّم ألكسي نافالني للمرة الأولى، كان يصعب تصديق تورط الكرملين في هذه العملية، فقد قال نافالني شخصياً في مناسبات متكررة إن موته سيزيد المخاطر المطروحة على الحكومة الروسية أكثر من حياته، ورغم الضجة الكبرى التي تثيرها فكرة "الكرملين القاتل"، لطالما أوحى هذا المجلس بأن الاغتيال ليس خياره الأول بل الأخير، حتى أنه لا يلجأ إلى هذا الأسلوب إلا مع جماعات محددة، بدءاً من المنشقين وصولاً إلى المتمردين الشيشان، أي الفئات التي تُعتبر خائنة بكل وضوح.كل شيء في روسيا معروض للبيع أو الإيجار، ولن يكون تصنيع غاز الأعصاب نوفيشوك في مختبر تجاري هدفاً مستحيلاً بأي شكل، ونظراً إلى وفرة القضايا التي أقدم فيها أشخاص نافذون على ارتكاب جرائمهم الانتقامية لأنهم واثقون من موافقة بوتين اللاحقة على عملياتهم أو رضوخه لأفعالهم ولو على مضض، زاد احتمال أن يكون شخص ثري ونافذ ويفتقر إلى الأخلاق وله معارف واسعة مسؤولاً عن الجريمة الأخيرة.لكنّ حرص الكرملين على اتخاذ موقف دفاعي سريع في قضية نافالني يعارض هذه النظرية، ففي القضايا التي تشبه قضية نيمتسوف، أطلق الكرملين في البداية تحقيقاً جدّياً، إذ يتعلق مؤشر آخر وأكثر خطورة بالمعلومة التي كشفتها مصادر ألمانية عن استعمال شكل جديد من غاز الأعصاب نوفيشوك، وهو نوع غير مسبوق على ما يبدو، حيث يستطيع علماء الكيمياء التجاريون أن يبتكروا متغيرات معروفة من هذا الغاز، لكنّ اختراع سلالات خاصة بهم مسألة مختلفة بالكامل.
يرتبط العامل الثالث الذي يدحض النظرية الأولية بالتحقيق المشترك بين موقعَي Bellingcat وInsider والنتيجة النهائية التي توصّل إليها، ويتورط ضباط من جهاز الأمن الفدرالي الروسي، بما في ذلك الجماعات السرية فيه، في صراعات وخطط فاسدة خاصة بهم.لكن تبقى هذه التصرفات محدودة بناءً على قواعد واضحة وتُفرَض ضوابط بيروقراطية على تحركات المسؤولين التي تخالف القوانين العامة.لا يستطيع أي مسؤول مستقل أن يستهدف شخصية رفيعة المستوى مثل نافالني من دون أن يتلقى أوامر واضحة من أعلى المراتب في سلسلة القيادة، فما الذي جعل تحركات نافالني غير مقبولة فجأةً، علماً أنه كان يواجه ضغوطاً واعتداءات متقطعة منذ سنوات لكن سُمِح له رغم ذلك بالتحرك؟ ربما يتعلق السبب بمبادرة "التصويت الذكي" التي أطلقها نافالني قبيل الانتخابات المحلية، ولا شك أنها أثارت قلق حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، أو ربما يتعلق تغيّر الموقف من نافالني بارتباطه بجماعات معارِضة أخرى، بمن في ذلك الشيوعيون، لكن لا تبدو هذه المبادرات بالغة الخطورة أو مختلفة عن سابقاتها لتبرير ما حدث. يتعلق احتمال مقلق آخر بحصول نقلة نوعية في أسلوب الكرملين، فلطالما كان الحفاظ على عمل سياسي صادق ظاهرياً وإفساح المجال أمام نشاطات شعبية ومبادرات المجتمع المدني، بدل الاكتفاء بـ"معارضة منهجية" صُوَرية، جزءاً محورياً من مقاربة الكرملين لحُكم البلد.هذه المقاربة لا تشبه "الستالينية" ولا حتى نظام الحزب الواحد على الطريقة الصينية، بل إنها تعكس نظاماً هجيناً ومناسباً بما يكفي، مع ترك هامش صغير للديمقراطية الحقيقية ومجال مضاعف للديمقراطية المزيفة التي تهدف إلى تفعيل النزعة الاستبدادية الأوليغارشية وضمان تقبّلها على نطاق واسع.حقق هذا النظام، بشروطه الخاصة، نجاحاً متفاوتاً على مر السنين، لكن برزت هذه السنة مؤشرات متزايدة مفادها أن المسؤولين القدامى في الكرملين والإدارة الرئاسية أصبحوا أكثر قلقاً وأقل تسامحاً وكفاءة.تشير هذه المعطيات كلها إلى انتقال صريح نحو ما يسمّيه الصحافي أندريه كوليسنيكوف "التحصين المفرط": إنها مقاربة ذكية وشاملة وقوية لحُكم البلد.ربما سادت قناعة مفادها أن نافالني كان مدعوماً من أجهزة استخبارية غربية وهذا ما وضعه في مصاف "الخونة"، أو ربما تغيرت الخطوط الحمراء التي يُمنَع على المعارضة تجاوزها بكل بساطة، فأصبح هذا الناشط البارع يستحق الهجوم فجأةً: هو لم يكن يستهدف بوتين أو عائلته في الماضي مثلاً، لكن قد يعتبر البعض أنه لم يعد يلتزم بتلك الخطوط كما كان يفعل سابقاً.* مارك جاليوتي*