رحلة ناصر صباح الأحمد بين الممكن والمستحيل
لأسباب كثيرة، سرَت في البلاد مسحة تفاؤل غير معتادة، في حقبة الإحباط المزمن، عندما دخل الشيخ ناصر صباح الأحمد وزيراً للدفاع قبل ثلاث سنوات، بعد إصرار على الابتعاد عن العمل الحكومي لسنوات طويلة.فللرجل مشاريع تنموية جريئة، تفتح الباب لاحتمالات المستقبل، بصرف النظر عن الملاحظات عليها. حينها، استغرب أحد كبار كبار المسؤولين اختياره لتلك الوزارة، فما إن تقدم بملفات الفساد حتى اتضحت الصورة، ولذا كان رحيله سبباً لمزيد من الإحباط في زمن صار الناس يبحثون عن أمل بشخصٍ ما يعلق الجرس، قبل أن تدق الساعة، وحدوث الارتطام العظيم. عبر السنوات اختار الشيخ ناصر مجالاً مختلفاً للإنجاز، فأسهم في دعم مشاريع ثقافية وأفلام وثائقية عن التراث العربي والإسلامي، كما أوجد مع رفيقة دربه المثابرة الشيخة حصة صباح السالم دار الآثار الإسلامية التي تحولت بهدوء ودون ضجيج إلى معلم ثقافي مهم تستحقه الكويت.
ومع الملاحظات على موقفه بزمن الجدب الدستوري، في الثمانينيات بندوة مسرح الجمعية في الدسمة، فإن ذلك تغير بعد التحرير، بعد دعوة السلطة المجلس الوطني للانعقاد، ضاربة عرض الحائط بتعهدات المؤتمر الشعبي.دفع قبل انتخابات أكتوبر 1992، بإصدار وثيقة أبناء الأسرة في 13 يوليو 1992، والتي كانت علامة فارقة في سياق التطور السياسي، فأكدت أن"الحفاظ على المال العام جزء لا يتجزأ من الحفاظ على الحكم نفسه"، وأنه "لابد من التمسك بالدستور والحفاظ عليه عقداً يجسد الشرعية والعدالة... اتفق عليه أهل الكويت وأنصف الحاكم والمحكوم" و"توسعة قاعدة المشاركة الشعبية وتعزيزها كهدف من أهداف الحكم الأساسية"، وإبعاد الحكم عن أي نزاعات أو صراعات سياسية أو انتخابية أو عائلية، ونبذ صراعات البعد العائلي أو الطائفي أو القبلي "والابتعاد عن أي ساحة انتخابية نأياً بالحكم عن أي شائبة، فلم يكن الحكم مستهدفاً من أحد". ربما زاد من إحباطه أن تلك الدعوات لم تجد طريقها للتنفيذ، بل تراجعت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه، وتبعثر بعض الموقعين على الوثيقة، كلٌّ في طريق، واختاروا السلطة التي انتقدوها، وربما مارسوا ذات الممارسات التي فندوها. مياه كثيرة مرت تحت الجسر، وظل الشيخ ناصر يعيد المحاولات ليؤسس مجلة "الزمن" الشهرية، معبراً عن رأيه، إلا أن السلطة كانت، بسيفها ومنسفها، أقوى بكثير من تلك الأمنيات.وعندما اتكأ على تصورات المستقبل بمشاريع متعددة، لم ترَ النور بل المعاداة، حتى دخل الحكومة ليفتح ملف الفساد بقضايا واضحة المعالم، فكان أن عاد إلى ما بدأ به، خارج السلطة.حكاية الشيخ ناصر هي حكاية الطموح الجاد لقهر المستحيل، وإخراج البلاد من المأزق الدموي بمواجهة حائط عالٍ من الموانع، وظل يحاول على الرغم من كل الصعاب وحالة الانسداد السياسي، فكان أن فتح طريقاً ونموذجاً لمن يريد إخراج البلاد من أزمتها.رحم الله الشيخ ناصر صباح الأحمد رحمة واسعة، وألهم أهله القريبين ومحبيه الصبر والسلوان.