خفض الدينار العراقي... «والحچي لك» يا جارة!
• العراق دولة فاحشة الثراء تحولت إلى «فاشلة» بسبب الحروب والفساد وسوء الإدارة
• هل استعدت الكويت لفكرة نزوح مئات آلاف العراقيين بسبب الفقر والجوع؟
لا شك أن في خفض قيمة الدينار العراقي، الذي كان في سبعينيات القرن الماضي يناهز نظيره الكويتي، دروساً وعبراً في كيفية تدمير الدول، لا بالحروب وحدها بل أيضاً بالفساد وسوء الإدارة، مهما كانت الدولة غنية أو فاحشة الثراء، كما في حالة العراق، التي ربما لا تتطابق مع حالة الكويت تماماً، رغم التشابه في بعض الحالات، لكنها عبرة لمن يريد الاعتبار.
أعلن البنك المركزي العراقي، هذا الأسبوع، خفض سعر الدينار العراقي، مقابل الدولار الأميركي، بنسبة 23 في المئة، ليصبح سعر صرف الدولار 1450 ديناراً عراقياً، بعد أن كان 1120 ديناراً، قبل صدور القرار، ضمن إجراءات متعددة أطلقتها الحكومة العراقية، فيما يعرف بـ"الورقة البيضاء"، التي تتضمن أيضاً مقترحات بتقليص رواتب موظفي القطاع العام، وفرض ضريبة دخل جديدة بنسبة 15 في المئة للموظفين من الدرجتين المتوسطة والعليا، وإيقاف تمويل صندوق التقاعد، وزيادة أسعار الكهرباء والبنزين، وفرض ضرائب على بعض السلع غير الأساسية.وجاءت مبررات قرار خفض قيمة الدينار العراقي، الذي سبّب ردود فعل قوية في الشارع العراقي، خصوصا لدى الشرائح الأشد فقراً، بأنه "يهدف الى تعويض تراجع الإيرادات النفطية وسد فجوة العجز في ميزانية 2021، بعد انهيار أسعار النفط العالمية، ولتغطية جانب من آثار جائحة كورونا على الاقتصاد العراقي، وحرصا على تفادي استنزاف الاحتياطيات الأجنبية"، وكذلك "لمساعدة الحكومة على تأمين رواتب الموظفين العموميين"، مشيرة الى أن هذا الخفض في قيمة الدينار العراقي سيكون لمرة واحدة فقط.
ليست مجرد حالة جوار
ودون الإطالة في عرض مبررات وخطط العراق الاقتصادية والمالية، فإن لخفض قيمة الدينار العراقي دروسا وتحذيرات تستحق أن نتوقف عندها في الكويت التي يتجاوز الأمر بالنسبة إليها سياسيا مجرد حالة جوار، كما هو الأمر لدى بقية جيران العراق، إذ تعرضت الكويت قبل 30 عاما لغزو عراقي، وخاضت جانبا من معركة إسقاط صدام حسين، وأخيراً تولت قيادة مشروع ما يعرف بإعادة إعمار العراق. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن في حالة العراق ما يمثل نذير خطر لمعظم الدول الخليجية، لتشابه النموذج الاقتصادي، حتى وإن تمتعنا في الكويت والخليج بحالة مالية أفضل على المدى المتوسط.صحيح أن الكويت لا تعاني أزمة دين عام مثل العراق، الذي يواجه حجم دين خارجي بحدود 133 مليار دولار توازي 80 في المئة الناتج المحلي الاجمالي، لكنها أيضا تستعد للاستدانة دون خطة تعالج اخفاقات الإنفاق في الميزانية وخارجها، التي أفضت إلى نفاد سيولة الاحتياطي العام، فضلاً عن أن البلدين -الكويت والعراق- يتنافسان عالميا في نسبة الاعتماد على النفط في إيرادات الميزانية، بما يفوق 90 في المئة سنويا، والبلدان أيضا تتجاوز فيهما نسبة الاعتماد على السلع المستوردة نسبة 85 في المئة من احتياجات السوق. أما على صعيد الإدارة، فالكويت تسير، ولو جزئياً، على خطى العراق فيما يتعلق بمحاصصة المناصب القيادية والتنفيذية في الدولة، في حين بدأت خلال السنوات الاخيرة تطبق نموذجا يحاكي نموذج العراق في الفساد، عبر قضايا فاضحة كـ"النائب البنغالي" و"صندوق الجيش" و"الصندوق الماليزي" وغيرها... كما يشترك البلدان -وإن كانت الأفضلية للكويت حتى الآن- في مسألة تدهور مؤشرات التنافسية كجودة التعليم وسهولة ممارسة الأعمال، فضلاً عن التراجع في مؤشرات مدركات الفساد، فالكويت هنا أقرب لمؤشرات العراق مقارنة بمؤشرات بقية الدول الخليجية.ثروات متنوعة
وعلى صعيد الثروات فبلاد الرافدين فاحشة الثراء ولا تقتصر الثروة فيها على النفط الخام فقط، الذي يحتل فيه العراق الترتيب الخامس عالميا من حيث حجم الاحتياطي، بل تتعداه الى ثروات اخرى في المعادن بكميات متفاوتة كالغاز الطبيعي والكبريت والفوسفات واليورانيوم والكاولين الأبيض، الذي يستخرج منه مادة الألومنيوم، وغيرها من المعادن، الى جانب تربة زراعية مدعومة بموارد مالية ضخمة تدهورت بسبب الحروب وسوء الادارة وتفشي الفساد، فضلاً عن امكانيات لترويج سياحي على صعيد السياحة العادية أو الدينية يمكن ان تمول ميزانية العراق بمليارات الدولارات، لو احسن التركيز على البنية التحتية وتطوير منظومة الأمن فيها... مما يعني أن العراق من حيث الثروات أغنى من الكويت بمراحل، لكن هذه الثروة لم تمنع تحولها إلى دولة فاشلة لا يعلم أحد الحد الفاصل فيها بين الحكومة المركزية والميليشيات.هامش وحماية
وحتى لا نفرِط في التشاؤم، فإن أوضاع الكويت المالية لا تزال تحتفظ بمستوى دين عام محدود بلغ 4.5 مليارات دينار حسب بيانات 31/12/2019 وبنسبة 11.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، إضافة إلى وجود وسادة مالية تتمثل في الصندوق السيادي، الذي يبلغ حجمه حسب التقديرات الدولية بحدود 600 مليار دولار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدين العام المنخفض وأصول الصندوق السيادي المليارية إنْ وفّرا لنا بعض الحماية لفترة متوسطة؛ فإن التحدي مع الاعتماد شبه الكلي على النفط سيكون أكبر إن امتدت أزمة كورونا مدة أطول أو تعرض الاقتصاد العالمي لهزة تؤثر على الطلب على النفط.أبعاد اجتماعية وإنسانية
جانب آخر من آثار خفض الدينار العراقي على دولة غنية مثل الكويت يتعلق بالأبعاد الاجتماعية والإنسانية للقرار الاقتصادي، فحسب إحصاءات الحكومة العراقية فإن 40 في المئة من العراقيين بمستوى أو تحت خط الفقر، وسيعمل قرار خفض قيمة الدينار على رفع اسعار السلع المستوردة بحدود 20 في المئة على الأقل، وربما أكثر، بل إن السلع المستوردة في جانب مهم منها غذائية، بعد أن قررت الحكومة العراقية، وفي بلاد دجلة والفرات تقليص المساحة المزروعة بالقمح إلى النصف، في ظل شح المياه الذي تعانيه البلاد!لذلك، من المحتمل أن تؤدي الإجراءات الجديدة إلى حالة من الفوضى الأمنية أو السياسية في العراق، وما يترتب عليها من نزوح وهجرة لمئات آلاف من العراقيين إلى الحدود الكويتية-العراقية بسبب الجوع والفقر، كما حدث في حالة فنزويلا التي هاجر منها الملايين، وهي من أكبر منتجي النفط في العالم، إلى جيرانها في أميركا اللاتينية بحثا عن الغذاء والامن والعمل، مما سيخلف على الكويت ضغطا دوليا في تحديد آلية التعامل مع الوضع المستجد بكل تحدياته، وهذا يتطلب من الكويت على الأقل في هذه المرحلة ترقب الأوضاع في العراق وقراءتها، تحسباً لأي طارئ خلال الفترة القادمة.عبرة واعتبار
قيل قديماً: "ما أكثر العبرة وأقل الاعتبار!"، والعبرة من دول كالعراق وفنزويلا وغيرهما اعتمدت على مصدر دخل واحد أو تهاونت في سياسات الإصلاح الاقتصادي كثيرةٌ ومتنوعة، وفيها من الدروس ما يملأ مجلدات خطط الإصلاح الاقتصادي الحكومية، أما الاعتبار، أي الاستفادة من الدروس، فمحدود، ربما لم تسلم منه الكثير من الدول، خصوصاً النفطية عدا النرويج... ولنا نحن في الكويت، ومعنا دول الخليج، أن نختار ما بين أن نكون عبرة سيئة جديدة للعالم، أو نقدم نموذجاً صحيحاً للاعتبار.محمد البغلي
البلاد تتمتع بدين عام منخفض وأصول سيادية يوفّران لنا بعض الحماية... إلى حين
قرار خفض العملة العراقية جاء لتعويض تراجع الإيرادات النفطية وسد فجوة العجز في الميزانية وهي نفس التحديات التي تواجه الكويت حالياً
قرار خفض العملة العراقية جاء لتعويض تراجع الإيرادات النفطية وسد فجوة العجز في الميزانية وهي نفس التحديات التي تواجه الكويت حالياً