بين خطابات المسيئين للديمقراطية ورجالات التنوير
قبل الغزو ساد خطاب سياسي متزن، لم يتجاوز المألوف بالمواجهة من حيث التعبيرات والمفردات الدارجة ولم يهبط إلى مستوى القاع، صحيح أن قاعة عبدالله السالم كانت تشهد مواجهات حامية ومعارضة شرسة ومواقف ساخنة جداً، لكنها تحت سقف الآداب العامة ودون التطاول والتجريح وإهانة الأشخاص.
الممارسات الديمقراطية في الكويت ليست على ما يرام، والخطابات التي خرجت من بعض النواب، على مدى سنوات سابقة، أساءت للكثير، ولوثت هذا "البيت" بمصطلحات وكلمات ساقطة أثارت حنق البعض، وجوبهت بالاستنكار المذموم، لكننا نقر أن هذه الظاهرة الديمقراطية "الخارجة عن النظام" ليست استثناءً في الكويت، فهناك مجالس برلمانية عند العرب والأجانب شهدت أسوأ من هذا بكثير، فقد استخدمت فيها الكراسي والأحذية واللكمات ومظاهر مهينة حقاً وما أكثرها. قبل الغزو ساد خطاب سياسي متزن، لم يتجاوز المألوف بالمواجهة من حيث التعبيرات والمفردات الدارجة ولم يهبط إلى مستوى القاع، صحيح أن قاعة عبدالله السالم كانت تشهد مواجهات حامية ومعارضة شرسة ومواقف ساخنة جداً، لكنها تحت سقف الآداب العامة ودون التطاول والتجريح والإهانات على الأشخاص، فالظاهرة استفحلت بعد 1991 وكانت هناك "منازلات" بين بعض النواب وصلت إلى حد المهزلة! اختلفت التفسيرات حول أبعاد ودوافع الظاهرة في مفردات الخطاب النيابي، منهم من أرجعها إلى نقص في الثقافة أو إلى حالة الاحتقان السياسي، ومنهم من رأى فيها نوعاً من السقوط السياسي بهدف التكسب الرخيص ومخاطبة الغرائز العصبية وخلافها، لكن أيا كانت التفسيرات فقد عكست صورة مغايرة عن مجالس ما قبل الغزو التي اتسمت بالاحترام أولاً بين الأعضاء، وبالتالي أوصلت رسالة إلى الجميع، بأن هذا التمثيل للأمة فيه الكثير من ثقافة البيئة السائدة، من حيث لغة التخاطب.
كان ممتعاً الاستماع لجلسات المناقشة تحت قبة المجلس، فكنت تشعر كأنك في مجلس ثقافي أو بيت سياسي عريق تحبس أنفاسك عندما يبدأ النقاش ولا ينتهي إلا وتكون قد أخذت حصتك من المحاضرة، والتراجع بالممارسة الديمقراطية أعقبه تدنّ بالمستوى السياسي والثقافي لبعض الأعضاء وانعكس ذلك على معظم البرلمانات العربية، من تونس إلى مصر مروراً بلبنان والأردن، وصولاً إلى المغرب العربي. كم هو جميل عندما تنصت إلى إحدى النائبات التونسيات وهي تحاجج خصومها بشأن العلمانية والإسلام السياسي، وتقف مٌتَفوهَة بالمنطق والبلاغة الأدبية واستعارتها أبياتا من الشعر أو أقوالا وأحاديث دون أن تفقد تسلسل أفكارها أو تنزلق إلى مستويات متدنية. في لبنان، على سبيل المثال، كان هناك في الخمسينيات وليس الآن شيوخ في الأدب والسياسة والقانون، تقف أمامهم صامتاً عندما يتحاورون، استعنت بذلك بتحقيق نشرته مجلة "الشراع" اللبنانية لصاحبها حسن صبرا في التسعينيات حول "الحكَمْ والأبيات الشعرية في مناقشة البيانات الوزارية" أنقل منها وبتصرف ما يخدم فكرة المقال. عام 1951 قدمت حكومة عبدالله اليافي بيانها إلى مجلس النواب، قام النائب علي بدرالدين معارضاً ومنتقداً "التضامن المفقود" بين الوزراء وكانت الحكومة تتألف من عشرة وزراء قائلاً: أصابع كف المرء في العدَ «عشرة»ولكنها في مضرب السيف واحد ثم أكمل مطالعته بالقول "فسواء سمعنا البيان أم لم نسمعه، قرأناه أم لم نقرأه، فالعبرة في الرؤوس لا في الطروس وفي الأفعال لا في الأقوال... وعلى الإيمان تُبني الدولة والأمة". واقعة ثانية حصلت خلال ولاية الرئيس كميل شمعون وفي عهد حكومة صائب سلام عقدت جلسة المناقشة في شهر مايو (أيار) 1953 تخللها مشاهد من المخاطبة بالشعر، واستهلها النائب شارل حلو قبل أن يصبح رئيساً، موجها كلامه إلى الرئيس سلام "لقد طلبتم مني يا حضرة الرئيس أثناء استشاراتكم أن أخاطبكم في المجلس بالشعر، وبالنظر لهذه الرغبة وتلبية للجو الودي الذي ساد علاقتنا طوال المدة التي تجاورنا بها على مقاعد المجلس، وبالنظر للموقف السلبي، أجيز لنفسي أن أردد قول الشاعر: يعز عليَ حين أدير عيني أفتشُ في مكانك لا أرَاكا وأنهى كلامه بالقول "أنا مضطر لعدم منح الحكومة الثقة وواثق بأنكم ستقدرون هذا الموقف، والمصاعب التي اعترضتكم، وتجاه هذه الحال لا يسعني إلا أن أردد قول الشاعر: فلا أنا مذموم ولا أنت نادم". في هذه العجالة نذكر أسماء نواب من توفاهم الله شغلوا دورات في مجلس الأمة الكويتي، تمتعوا باحترام الجميع، وكانت لهم مكانتهم السياسية والوطنية والقانونية، منهم رحمة الله عليهم، العم جاسم حمد الصقر، الأستاذ أحمد الربعي، الأستاذ حمد الجوعان، الأستاذ يعقوب حياتي وغيرهم الكثيرون ممن كانت لهم وقفات وبصمات لا تنسى في تاريخ الديمقرطية الكويتية.