في 31 يوليو 2020، استضافت كُليتين في جامعة أكسفورد ندوة بحضور واسع، تحدث فيها العديد من العلماء المشهورين دولياً، وكانت الجلسة مخصصة في المقام الأول لأعضاء هيئة التدريس الداخليين، لكن بسبب الممارسة المستوحاة من الوباء المتمثلة في نشر النتائج العلمية على أوسع نطاق ممكن، تمت دعوة باحثين آخرين، وأعضاء مهتمين من عامة الناس. وعندما جاء دوري للتحدث، فتحت برنامج PowerPoint (باور بوينت) الخاص بي، وتعرّضت على الفور للهجوم برسائل مسيئة في نافذة الدردشة. وسأقتبس واحدة منها بالحرف: "تباً لك أيها التافه، تباً لك أيها الخروف، يا من يدعم النظام العالمي الجديد".
وكان عنوان عرضي التقديمي هو "شرح الاختلافات الدولية في سياسات الإخفاء في جائحة كوفيد 19"، لكن كان بإمكاني التحدث عن عمليات الإغلاق، والاختبار، والتتبع، والحماية، أو عشرات المواضيع الأخرى ذات الصلة، وفي كل موضوع، أكد لنا صانعو السياسات منذ بداية الوباء أنهم "يتبعون العلم"، ومع ذلك، فإن "العلم" بشأن تلك المواضيع لم يتم ترسيخه بعد، فقد تم الطعن في كل منشور جديد تقريباً، أحياناً من العلماء الزملاء، وأحياناً- بالقوة، بل حتى بالعنف- من أفراد من العامة.كيف استطعت، بصفتي طبيباً وأستاذاً جامعياً في أكسفورد، اجتذاب حاشية من المسيئين الذين لديهم الوقت والطاقة لملاحقتي عبر بوابات (افتراضية) لندوة أكاديمية؟ من نظّم هؤلاء المتصيدين؟ ولماذا شعروا بالحاجة إلى ملء صندوق بريدي الوارد بالألفاظ والتهديدات؟لنعد إلى ربيع عام 2020، عندما كان "كوفيد 19" يجتاح العالم، وكانت الأبحاث تتقدم بوتيرة وحجم غير مسبوقين، وسرعان ما أصبحت قواعد البيانات العلمية مغلقة بالمطبوعات المسبقة التي يصعب الحكم على مصدرها وجودتها، ورغم الإجابة السريعة عن بعض الأسئلة حول الفيروس، فإن العديد من الأسئلة الأخرى لم تتلق الإجابة، وكانت العديد من النتائج غامضة، أو غير كاملة، أو غير متماثلة، أو غير ذات صلة؛ ولكن لكل منها آثار بعيدة المدى على حياة مليارات الناس وسبل عيشهم.واعتاد أولئك الذين أجروا بحثاً علمياً من أجل لقمة العيش أن يتحسروا على حقيقة أن النتائج التي توصلنا إليها لم تلفت انتباه أي شخص سوى عدد قليل من زملائهم الأكاديميين، وقد تكون الادعاءات التي لا تُنسى بأن نصف الأوراق العلمية لا تُقرأ أبداً، أو أن الأمر يستغرق 17 عاماً في المتوسط حتى يكون لنتائج البحث أي تأثير حقيقي، ملفقة؛ بيد أنها استوعبت مشكلة حقيقية. إن العلماء من أمثالي ببساطة لم يتوقعوا قط أننا سيقذف بنا إلى عالم ذي صورة معكوسة، حيث يستغل اللوبيات بصماتنا المسبقة لأغراضهم الخاصة قبل أن نرد حتى على انتقادات المراجعين النظراء.وفي بيئة "أليس في بلاد العجائب؟" تضخمت استجابة الجمهور للعلم لدرجة استحالت السيطرة عليها. إن "الحقائق"، حتى عندما تنتج وتنشر بحسن نية، توضع على الفور في مفرمة لحم أيديولوجية، ويتم تشكيلها داخل قالب سياسي، بينما يصبح عدم اليقين العلمي سلاحاً في أيدي المسؤولين المنتخبين والمصالح غير المنتخبة.وفي ظل هذه الظروف، يصبح السلوك الطبيعي للعلم تمريناً مشحوناً، فبمجرد أن تضع حقيقة- مهما كانت حذرة- في المجال العام، فإنها تظل هناك، ولا يمكن التراجع، وكلما استعصت علينا الإجابات النهائية عن الأسئلة العلمية الملحة، أصبحت الافتراضات المعيبة للعلماء، والاستنتاجات المبكرة، والمنافسات الأكاديمية، والولاءات السياسية، والحياة الخاصة هي محور القصة. وأقول للمتصيدين: نحن جميعا "على خلاف".تعرضت لوابل من الإساءة، والغضب، والكراهية، والتخويف، والشتائم، في الندوة الواسعة الحضور من مستخدم مجهول سجّل الدخول على أنه رجل أبيض، وكان عنفه اللفظي مثالاً كلاسيكياً لما أطلق عليه العلماء "الرجولة البيضاء السامة"، وتشمل هذه الفئة من السلوك أيضاً الوصاية العدوانية والعاطفية على الحقائق غير القابلة للتغيير (ولكن لا أساس لها)، والاستخفاف بالصفات الأنثوية المفترضة (بما في ذلك الاعتراف بالضعف وعدم اليقين، والتعبير عن الاهتمام بالآخرين، واتخاذ الاحتياطات المنطقية مثل ارتداء قناع)، ووصف المعارضين بمصطلحات مثل "ندفة الثلج" و"خروف".إن المعلومات المضللة، والأكاذيب، وأنصاف الحقائق الملتوية ليست شيئاً جديداً، ولكن كما جادل الفيلسوف جيسون هارسين، فإن "الوباء المعلوماتي" لما بعد الحقيقة المحيط بـ "كوفيد 19" أكثر شراً من أي شيء شوهد في أزمات الصحة العامة السابقة، وبالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى تسليح المعلومات لتحقيق غاياتهم الخاصة، فإن وفرة المسودات العلمية التي تراكمت استجابة للوباء هي هبة من السماء.وربما يكون "كوفيد 19" قد غيّر العلم بالفعل إلى الأبد، إذ زعزع الوباء وتوابعه ركائز التحقيق النزيه من خلال إجبارنا على إعادة النظر في كيفية الإبلاغ عن النتائج الأكاديمية، ونشرها، ومشاركتها مع عامة الناس، ولا يمكننا الخروج من حفرة الأرانب والعودة إلى الوضع الراهن المتمثل في الندوات التي لا تحظى بحضور كافٍ. وفي المستقبل المنظور، سيكون العلم نوعاً من العمل العام، وسيكون التواصل العلمي معركة عارمة بين الجهات الفاعلة ذات النوايا الحسنة والمتصيدين.وكيف يمكن للعلم أن ينجو من كل هذا؟ أولاً، سنحتاج- نحن العلماء- إلى أن نكون أكثر انعكاساً لذاتنا، وأن نطور وعياً متزايداً بهوياتنا وقيمنا والتزاماتنا الأخلاقية كباحثين يعملون من أجل المصلحة العامة. إن الاضطلاع بهذا الدور يعني الانخراط- وإن كان مؤلماً- مع الملاحظات الناقدة والافتراءات، ومن خلال القراءات الدقيقة للنقد والهجمات الشخصية التي نتلقاها، يمكننا فهم المناخ السياسي الحالي بصورة أكبر، وتحديد الأساليب المحتملة لحماية المعرفة التجريبية، ولكن لكي نكون فعالين، يجب علينا أن نعلن رسمياً العمل المعرفي للدفاع عن افتراضاتنا الأساسية حول طبيعة الواقع، والطريقة التي يمكن من خلالها معرفة ذلك الواقع.ويجب أن يصبح العلماء أيضاً أكثر مهارة في التفكيك، وللتغلب على محاولات تشويه النتائج التي توصلنا إليها، نحتاج إلى تحديد قيود الخطابات والأعراف اللغوية الخاصة، ثم التحايل عليها.لنأخذ على سبيل المثال إعلان بارينغتون العظيم، وهو خطاب عام حديث وعريضة صادرة عن مجموعة من الأكاديميين المهمين الذين ينادون باستراتيجية مناعة القطيع للتعامل مع "كوفيد 19". إن اقتراحهم- المتمثل بوجوب محاصرة السكان "الضعفاء" في حين يمضي "غير الضعفاء" في حياتهم دون قيود- يستند إلى معلومات مضللة، ولكن تم تقديمه على أنه علم محترم، ورغم أن العلماء العاديين قد عارضوا هذا الأمر على الفور، فإن الرفض الأكثر فاعلية جاء من المستخدمين العاديين الذين وقعوا العريضة المصقولة للغاية التي نشرت عبر الإنترنت بأسماء مثل "جوني فارتبانتس"، و"البروفيسور نوتاف أوكينغكلو" و"بانانا راما".يجب أن نرفع قبعاتنا للدكتور فارتبانتس، وإن رسالتي للمتصيدين هي أننا قد خلعنا قفازاتنا، وأننا نفهم لعبتهم، وسأستخدم سلوك المتصيدين الخاص بي في تعاملي مع البيانات في بحثي المقبل.*أستاذ علوم الرعاية الصحية الأولية في قسم نوفيلد لعلوم الرعاية الصحية الأولية بجامعة أكسفورد.
مقالات
جائحة ما بعد الحقيقة
24-12-2020