تُفصّل واحدة من أفضل الوثائق المرتبطة بالمرحلة التمهيدية للحرب العالمية الأولى، بقلم المؤرخ كريستوفر كلارك، كيف ساق عدد من القادة الأوروبيين بلدانهم إلى صراع لا يرغب فيه أحد، حيث يصفهم كلارك بعبارة "السائرون أثناء النوم" ويعتبر أنهم قاموا بسلسلة من الحسابات الخطأ والمأساوية التي أسفرت عن سقوط 40 مليون ضحية بدافع القومية والمصالح المتضاربة وتبادل انعدام الثقة والتحالفات العقيمة.

يوشك القادة حول العالم اليوم على ارتكاب النوع نفسه من سوء الحسابات، لكن تحتدم المخاطر هذه المرة بسبب انتشار الأسلحة النووية، إذ تملك الولايات المتحدة وروسيا معاً أكثر من 90% من الترسانة الذرية العالمية، لكنهما تتشاركان الساحة مع سبع قوى نووية أخرى ويتورط عدد منها في منافسات متقلبة، وقبل قرن من الزمن، قُتِل ملايين الناس على مر أربع سنوات من حروب الخنادق لكن قد يُقتَل العدد نفسه اليوم خلال دقائق.

Ad

على الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس وفريقهما المقبل في مجال الأمن القومي أن يعترفوا بأن احتمال استخدام الأسلحة النووية يطغى اليوم على صراعات العالم أكثر من أي وقت مضى، فقد تؤدي حادثة واحدة أو خطأ فادح إلى كارثة مدمّرة. نتيجةً لذلك، يجب أن يطلق بايدن مساراً جديداً في السياسة النووية وجهود الحد من التسلح، شرط أن يقدّم هذا المسار ضمانات جديدة ضد أي استعمال عرضي أو مقصود للأسلحة النووية ويعزز الآليات الدولية التي ساهمت لفترة طويلة في حفظ السلام.

احتمالات مستبعدة لكن غير مستحيلة!

بدأ ناقوس الخطر يدقّ منذ سنوات، فتكلمت صحيفة "فورين أفيرز" منذ أكثر من سنة عن العناصر التي زعزعت التوازن السابق وزادت المخاطر النووية: في المجالات التي تتصادم فيها المصالح الوطنية، لم تعد الدول تستعمل الحوار والدبلوماسية بقدر ما كانت تفعل سابقاً. كذلك، تآكلت هياكل الحد من التسلّح وظهرت على الساحة أنظمة صاروخية متقدمة وتقنيات جديدة وأسلحة إلكترونية. اليوم، يثبت وباء "كوفيد19" أيضاً هشاشة الآليات الدولية المستعملة للسيطرة على المخاطر العابرة للحدود ويشدد على ضرورة ابتكار مقاربات مشتركة جديدة لاستباق التهديدات والتعامل معها. لقد علّمنا فيروس كورونا أن الاحتمالات المستبعدة قد تصبح ممكنة في أي لحظة، لكنّ العواقب في مجال الأسلحة النووية ستكون أكثر تدميراً.

لتقليص مخاطر الحوادث النووية أو اندلاع الحروب، يجب أن تُجدّد إدارة بايدن الحوار مع الدول النووية الأساسية وقوى مؤثرة أخرى، لكن لضمان نجاح هذه المساعي، لا بد من بناء علاقة فاعلة مع الكونغرس، بما في ذلك أعضاء الحزب الجمهوري، للتناقش حول المسائل التي لا تتطلب إجماعاً بين الحزبَين فحسب بل تحتاج إلى مقاربة غير حزبية بأي شكل، منها الحد من التسلح، والسياسة النووية، والجهود الدبلوماسية مع القوى النووية الأخرى.

تشهد العلاقات الأميركية الروسية تدهوراً كبيراً، لكن يجب أن تعترف واشنطن وموسكو مجدداً بأنهما تتقاسمان مصلحة وجودية مشتركة لمنع استعمال الأسلحة النووية. يُفترض أن تعترف إدارة بايدن وقادة الكونغرس بهذا الواقع ويتعاونوا لتجديد الحوار حول الحد من التسلح والبنى التي جعلت العالم مكاناً أكثر أماناً طوال عقود عدة، إذ يتطلب التعامل مع الخصوم في المجال النووي جهوداً دبلوماسية بدل المواقف اللاذعة، وعلى إدارة بايدن والكونغرس معاً أن يخلقا مساحة سياسية تسمح للولايات المتحدة وروسيا بتجديد التزاماتهما على المستويات العسكرية والدبلوماسية والعلمية.

سعى بايدن إلى تكثيف التعاون داخل الكونغرس وبين الكونغرس والسلطة التنفيذية طوال عقود، لذا يجب أن يتعاون في أسرع وقت ممكن مع القادة الديمقراطيين والجمهوريين لإنشاء مجموعة اتصال جديدة تتألف من الحزبَين وتشمل قادة من مجلس النواب ومجلس الشيوخ ورؤساء اللجان وتُركّز على السياسة تجاه روسيا والمخاطر النووية وحلف الناتو. تستطيع هذه المجموعة أن تقوي مكانة الرئيس في المفاوضات مع روسيا عبر إثبات دعم الحزبَين الجمهوري والديمقراطي لتبنّي وجهة جديدة في السياسة النووية الأميركية وجهود الحد من التسلح، تزامناً مع التشديد على أهمية الأمن الأميركي والعالمي.

تجديد السياسة النووية

تكثر الخطوات التي يستطيع بايدن اتخاذها للتأكيد على حصول تحوّل سريع في السياسة الأميركية، يمكنه أن يبدأ بإعادة بناء التحالفات والبنى الأمنية الإقليمية التي تصدعت في عهد سلفه. كذلك، يستطيع بايدن أن يضع استراتيجية خاصة بالأمن القومي لإضعاف دور الأسلحة النووية ويعلن هذه التعديلات كلها عبر خطاب شامل حول السياسة النووية، ستكون هذه الخطوة كفيلة بتوجيه رسالة قوية إلى الحلفاء والخصوم معاً، فيدركون أن إدارة بايدن ملتزمة باسترجاع الدور الأميركي القيادي في مجال السياسة النووية والحد من التسلح.

من الضروري أيضاً أن تتخذ الإدارة الجديدة سلسلة من الخطوات التنفيذية التي يستطيع الرئيس الجديد إقرارها فور وصوله إلى السلطة، أبرزها الوفاء بوعده المرتبط بتمديد "معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية" (أو معاهدة ستارت الجديدة) مع روسيا قبل أن تنتهي صلاحيتها في 5 فبراير المقبل. تُعتبر هذه المعاهدة أساسية لمتابعة التحقق من نشاطات القوى النووية الاستراتيجية والحد منها عند الحاجة، ويجب أن يمددها بايدن لخمس سنوات إضافية، وهي المدة القصوى المسموح بها، حيث ستُمهّد هذه الخطوة لتوسيع الدعم محلياً وكسب تأييد الحلفاء في أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ.

بعد اتخاذ هذه الخطوة المحورية، على بايدن أن يعلن تخفيض أعداد الأسلحة النووية الاستراتيجية المستعملة (من 1550 بموجب الحدود التي تسمح بها المعاهدة إلى 1400 مثلاً بحلول نهاية 2021) ويحث روسيا على الالتزام بالمثل.

على صعيد آخر، يستطيع بايدن أن يشرف على مراجعة أنظمة القيادة والتحكم والإنذار الأميركية في المجال النووي، بما في ذلك الخطوات الآمنة التي تحمي من التهديدات الإلكترونية واستخدام الأسلحة النووية بطرق ممنوعة أو غير مقصودة أو عرضية. يجب أن تأخذ هذه المراجعة بالاعتبار الخيارات المحتملة لزيادة مدة التحذيرات والقرارات التي يستفيد منها المسؤولون الأميركيون، بالإضافة إلى تحديد الركيزة اللازمة لإحداث تعديلات مماثلة في روسيا إذا أمكن، ويجب أن ترحّب الولايات المتحدة وروسيا معاً باحتمال إطالة مدة اتخاذ القرارات نظراً إلى المسؤولية الاستثنائية التي يتحملها الطرفان لتجنب أي خطأ نووي، كذلك، على الولايات المتحدة أن تشجّع الدول النووية الأخرى على إجراء مراجعاتها الداخلية الخاصة للتدابير الأمنية المعمول بها. قد تشكّل هذه الخطوات ركيزة لإقرار تدابير أوسع تستطيع القوى النووية اتخاذها لتقليص المخاطر المطروحة على مستوى العلاقات الثنائية أو على الساحة الإقليمية عموماً: يمكن وضع خريطة طريق خاصة بالفضاء الإلكتروني لمنع الاعتداءات الإلكترونية ضد المنشآت النووية مثلاً، أو ابتكار هياكل للقيادة والتحكم في المجال النووي وأنظمة الإنذار المبكر.

أخيراً، قد يتعلق أبرز تعديل يستطيع بايدن إقراره بتحصين صلاحية الرئيس الوحيدة في مجال استعمال الأسلحة النووية، فمنذ نهاية الحرب الباردة، تطورت القدرات العسكرية بطرقٍ سمحت بزيادة الضغوط الهائلة أصلاً على الرئيس حين يضطر هذا الأخير لاتخاذ قرار باستعمال الأسلحة النووية أو الامتناع عن استخدامها خلال دقائق أحياناً، وحرصاً على أن تخضع أي قرارات بهذه الأهمية لنقاشات كافية مستقبلاً وترتكز على مشاورات مناسبة وتتماشى مع الدستور والقانون الأميركي والدولي، يجب أن يوقّع بايدن على مرسوم رسمي لإطلاق مسار جديد وتوجيه طريقة استعمال الأسلحة النووية، ويجب أن ينصّ ذلك المرسوم على ضرورة أن يرتكز أي قرار مرتبط باستعمال القوة النووية (بطريقة هجومية أو دفاعية حين يسمح جدول اتخاذ القرارات بذلك) على مشاورات مع كبار الخبراء القانونيين والمسؤولين عن السياسات التنفيذية ومع قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس. يمكن تقوية هذه الإجراءات الجديدة عبر تشريعها، فمن خلال سنّ هذا القانون، يستطيع الكونغرس أن يجري مراجعة حذرة لمستوى تراجع مسؤوليته الدستورية بشن الحروب والتحقيق بأسباب إضعاف قانون سلطات الحرب وتحديد طرق معالجة المشكلة.

الحروب النووية ممنوعة!

على المدى الطويل، يجب أن تبذل إدارة بايدن جهوداً دبلوماسية متواصلة لإعادة إحياء العمليات والآليات والاتفاقيات التي تسمح للدول بإدارة علاقاتها في زمن السلم وبالتالي تجنب الصراعات النووية، لكن يستحيل الحفاظ على هذه الهندسة الضامنة للاستقرار من دون حوار، إذ تحتاج الولايات المتحدة تحديداً إلى إعادة إطلاق المحادثات حول طرق إدارة الأزمات مع روسيا وبين حلف الناتو وروسيا أيضاً. في الوقت نفسه، يجب أن تستأنف واشنطن محادثات منفصلة مع الصين، وفي ظل غياب أي حوار يهدف إلى تجنب أو معالجة الحوادث القابلة للتحول إلى صراعات شاملة، ستجد واشنطن صعوبة متزايدة في التوصل إلى تفاهم متبادل مع موسكو وبكين بشأن تخفيض المخاطر النووية.

على نطاق أوسع، يجب أن تعيد الولايات المتحدة وروسيا إحياء التحذير الذي أطلقه سابقاً الرئيس رونالد ريغان والسكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حين قالا: "لا يمكن الفوز بأي حرب نووية ويجب عدم خوضها أصلاً". من خلال التعاون مع الصين وفرنسا وبريطانيا للتعبير عن الموقف نفسه، يمكن نشر رسالة قوية مفادها أن القادة، رغم خلافاتهم في مجالات سياسية أخرى، يدركون أن مسؤوليتهم تفرض عليهم التعاون في ما بينهم لمنع الكوارث النووية. من المفيد أيضاً أن يتجدد الزخم لاتخاذ خطوات إضافية لمنع الانتشار النووي ونزع السلاح، ما يسمح بإقناع الدول غير النووية بالامتناع عن تصنيع هذه الأسلحة.

قد يشكّل أي إعلان مشترك من هذا النوع ركيزة للتعاون بين القوى النووية في المراحل اللاحقة، وقد يشمل هذا التعاون تأمين المواد النووية، وتعليق نشاطات الصواريخ الأرضية الروسية والأميركية المتوسطة المدى في غرب جبال الأورال، وتقليص الأسلحة الأميركية والروسية غير الاستراتيجية، ومنع تصعيد المنافسة بين القوى النووية الهجومية والدفاعات الصاروخية في أوروبا وآسيا.

في النهاية، تُعلّمنا تجربة الحرب العالمية الأولى أن سوء التفاهم المتبادل قد يدفع أكثر القادة تردداً إلى خوض الصراعات، ومن الواضح أن قادة العالم اليوم يسيرون من دون علمهم نحو الهاوية، لكنهم أصبحوا هذه المرة على شفير كارثة نووية، لذلك يجب أن يستيقظوا ويدركوا حقيقة ما يحصل قبل فوات الأوان!

إرنست ج. مونيز وسام نان–فورين أفيرز