الولايات المتحدة هي الدولة الأوفر حظاً في التاريخ الحديث، بدأت مسيرتها على شكل بؤر استيطانية أوروبية هامشية وبعيدة عن الدول المستوطنة بسبب صعوبة السفر بحراً، حين اكتسبت المستعمرات استقلالها، كانت ضعيفة وفقيرة ومتصدعة، لكن خلال أقل من قرن ونصف، توسّعت تلك المستعمرات الثلاث عشرة في أنحاء أميركا الشمالية، وتجاوزت حرباً أهلية، وقادت قوى عظمى أخرى في النصف الغربي للكرة الأرضية، وأنشأت أكبر اقتصاد في العالم وأكثره دينامية، ولم تتوقف هذه المسيرة التصاعدية حتى نهاية القرن العشرين، حين أصبحت الولايات المتحدة في أعلى مقاليد السلطة غداة انتصارها في الحرب الباردة وبقيت في الذروة لفترة قصيرة على الأقل.

كان الأميركيون محظوظين لأن أميركا الشمالية منطقة غنية بالموارد الطبيعية والأراضي الخصبة، وتمرّ بها أنهار صالحة للملاحة، وتتّسم بمناخ معتدل عموماً، كما استفادت الولايات المتحدة منذ البداية أيضاً من العداوات الحاصلة بين القوى العظمى الأخرى.

Ad

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية لا تُضاهى، ولو لفترة وجيزة، فلم تواجه في تلك الفترة أي خصوم جدّيين واقتنع السياسيون والمحللون بأن هذا البلد اكتشف المعادلة السحرية لتحقيق النجاح في عالمٍ يتجه بكل وضوح نحو العولمة، فكانت الغطرسة الأميركية خلال التسعينيات متوقعة، فقد عجز أي بلد آخر عن تحقيق هذه السلسلة الطويلة والمتواصلة من النجاحات ولم يستطع سوء الحظ أن يكبح مسار الولايات المتحدة في أي مرحلة من المراحل.

لكن هل ما زال الوضع على حاله اليوم؟ وهل يستطيع الأميركيون أن يفترضوا حتى الآن أن العالم مُلكهم ولا مفر من أن تصطلح الأمور حتى لو تصرفوا بقلة مسؤولية؟ الجواب ليس مؤكداً بعد، لكن تشير أربعة أسباب بارزة إلى أن الحظ الأميركي الوافر بدأ ينفد:

أولاً، لم يعد الأمن المجاني الذي استفاد منه البلد منذ تأسيسه راسخاً بقدر ما كان عليه، إذ لا يزال غياب الأعداء في الجوار عاملاً إيجابياً طبعاً، وتحمي المساحات المائية الشاسعة الولايات المتحدة حتى الآن من مشاكل محتملة كثيرة. يُعرَف البنتاغون رسمياً بـ"وزارة الدفاع" لكنّ القوات الأميركية المسلّحة لا تنفق الكثير من الوقت أو المال للدفاع عن الأراضي الأميركية مباشرةً، بل إنها تأخذ مجازفات كبرى لمحاولة رسم وجهة الظروف السياسية في أماكن بعيدة. يتخذ الأميركيون هذا النوع من الخطوات لأنهم لا يقلقون من احتمال التعرّض للغزو من كندا أو المكسيك أو أي جهة أخرى.

لكن يُذكّرنا عام 2020 للأسف بأن الحماية التي كانت الولايات المتحدة تتمتع بها سابقاً لم تعد قوية بالقدر نفسه، فخلال أقل من سنة مثلاً، فاق ضحايا فيروس كورونا أعداد من سقطوا خلال الحرب العالمية الأولى والحرب الكورية وحرب فيتنام مُجتمعةً، لا يزال بُعد المسافة عاملاً أساسياً لكنه لا يحمي من جميع المخاطر.

ثانياً، تشكّل الصين مصدر قلق آخر اليوم فقد أصبح هذا البلد خصماً أقوى بكثير مما كان عليه الاتحاد السوفياتي، سيصبح الاقتصاد الصيني قريباً أكبر من الاقتصاد الأميركي، وقد تجنّبت بكين الحروب المدمّرة، وتبدو النُخَب الحاكمة فيها مقتنعة بأنها ستصبح القوة الرائدة والمطلقة في هذا القرن، وأثبت نموذج الرأسمالية المبني على نظام الحزب الواحد فاعليته، وتشارك الصين في مؤسسات دولية أساسية وفي مختلف مناطق العالم. حين كانت إدارة ترامب منشغلة بالعودة إلى أشكال متنوعة من السياسة الحمائية، حرصت الصين على إجراء المفاوضات والتوقيع على اتفاقيات تجارية واستثمارية جديدة.

لكن ربما يبالغ البعض في تقدير حجم التحديات التي تطرحها الصين، فلا يزال الدخل الفردي الصيني أقل بكثير من الدخل الأميركي ويبقى فائض النفوذ المستجد (أي حجم الثروة التي يمكن استعمالها لرسم الأحداث في أماكن أخرى بعد تلبية الحاجات المحلية) أصغر حجماً أيضاً، كذلك، لم تحقق "مبادرة الحزام والطريق" الشهيرة الأهداف المنشودة بقدر ما يتمنى الرئيس الصيني شي جين بينغ، وقد توسعت المخاوف من نوايا الصين على المدى الطويل بعدما تبنّى البلد حديثاً دبلوماسية "الذئب المحارب" العدائية وتعامل بصرامة مع المعارضين وشركائه التجاريين وأقلية الإيغور المسلمة. مع ذلك، من غير المنطقي أن يفترض أحد أن الصين ستسقط بسهولة على غرار خصوم الولايات المتحدة السابقين.

ثالثاً، لا مفر من ملاحظة تراجع حظوظ الولايات المتحدة بعد سلسلة المشاكل التي أحدثها الأميركيون بأنفسهم، فلائحة الاضطرابات في هذا المجال تطول، منها بث انقسامات متعمدة ونشوء مأزق شائك يجعل أي تحركات في الملفات المحورية صعبة أو حتى مستحيلة، وتشويه معنى "الحرية" لدرجة أن يقتنع ملايين الأميركيين بأن رفض وضع القناع على الوجه في ظل تفشي وباء كورونا ليس سلوكاً غبياً بل بطولياً، وعلى صعيد آخر، يرتفع عدد المخادعين والدجالين والمتصيدين في المناصب العامة، فقد طوّر هؤلاء أعمالهم المربحة استناداً إلى خليط سام من الأكاذيب والكراهية.

وفي الوقت نفسه، يتوسّع نفوذ جماعات الضغط التي تحصل على تمويل كبير ولا تلتزم بالحقائق إلا ظاهرياً، وتُمعِن قوة المال في تشويه السياسة الأميركية، ويحمل النظام الانتخابي شوائب كبرى كونه يقدّس حُكم الأقلية، ولا تتعرض النُخَب الحاكمة في مجال السياسة الخارجية لأي محاسبة وتعجز بكل وضوح عن استخلاص الدروس من أخطاء الماضي.

رابعاً وأخيراً، تبرز مشكلة التغير المناخي، فلا يتأثر وضع الغلاف الجوي بآراء مختلف المعسكرات في هذا الملف، بل إنه يتبع قوانين الفيزياء والكيمياء بغض النظر عن قناعاتنا، حيث يستطيع البشر أن ينكروا حقيقة التغير المناخي، لكنّ كوكب الأرض لن يعيرهم أي اهتمام، ولن تكون المعطيات الجيوسياسية الإيجابية كافية لإنقاذ الولايات المتحدة إذا استمرت ظاهرة تسخين الغلاف الجوي، ولن يتحسّن الوضع أيضاً في ظل انتشار حاملات الطائرات الضخمة، والصواريخ البالستية المتطورة، والقدرات الحربية المضادة للغواصات، والإمكانات السيبرانية المتوسعة وغيرها من المعدات التي تستعملها القوى العظمى المعاصرة. فقد يتمكن البلد من تخفيف المشاكل والتكيّف معها وتعديل الوضع بطرق متنوعة بفضل الاقتصاد القوي والعلماء والمهندسين المتدرّبين والقطاع الخاص المعروف بحسّه الإبداعي، لكنّ التحديات المرتقبة تزداد خطورة مع مرور كل سنة، وعند تقييم أحداث العالم اليوم تزامناً مع مراجعة الاضطرابات السياسية الآنف ذكرها، يسهل أن نستنتج أن حظوظ الولايات المتحدة القائمة منذ وقتٍ طويل قد تصل إلى نهاية حزينة خلال جيل أو جيلَين.

نتمنى أن يكون هذا التحليل قاتماً أكثر من اللزوم، ففي النهاية، تتمتع الولايات المتحدة حتى الآن بعدد كبير من نقاط القوة، لا سيما في مجال العلوم والتكنولوجيا، ويواجه خصومها المحتملون مشاكل خطيرة خاصة بهم، ولم يعد استرجاع التفوّق المطلق الذي استفادت منه واشنطن خلال التسعينيات وارداً، لكن قد تسمح الإصلاحات الذكية بالحفاظ على أمن البلد وازدهاره وحماية قِيَمه السياسية الأساسية، ولا شك أن رحيل "أسوأ رئيس أميركي على الإطلاق" سينعكس إيجاباً على الوضع العام.

قال لاعب البيسبول الشهير برانش ريكي يوماً إن "الحظ هو نتيجة مباشرة للتصميم"، لذلك يجب ألا يفترض الأميركيون أن النجاح هو جزء من خصائصهم الفطرية وبالتالي لا يمكن أن يخسروه، فإذا أراد الأميركيون أن ينعموا بمستقبل مزدهر بقدر ماضيهم، يجب أن يبدوا استعدادهم للتعاون في ما بينهم، وهو سلوك غائب منذ عقدَين من الزمن، وإذا فشلوا في استرجاع حس التعاون، فلا مفر من أن يصبح الحظ الأميركي الوافر جزءاً من الماضي!

ستيفن م. والت – فورين بوليسي