نصيرة محمدي: قصيدتي مرّت بالتجلي والتخبط والتحليق والحلم
الشاعرة الجزائرية أكدت أنها «لا تبحث عن إجابات لعالَم مُبهَم»
الحديث معها شائق وممتع مثل قصيدة جميلة تتهادى بخفة. كلماتها معبرة عن شاعرة تقف واثقة على ناصية الإبداع تغرد كفراشة بلغةٍ رشيقة، إذ من الصعب أن تمل "الدردشة" معها مثلما هو صعب الانفكاك من جاذبية عالم قصائدها المفعم بالحلم والحياة ومحاولة الإمساك بالبهجة مهما كان الألم والغياب، وهذا ربما من أسباب تميز نصيرة محمدي، الشاعرة الجزائرية صاحبة المؤلفات الرائعة التي أبرزها "غجرية" و"روح النهرين" و"جسد الغياب" و"نسيان أبيض"، والتي قالت إن المبدع "يأتي إلى الكتابة من حيث لا يدري".وأضافت محمدي، في حوار مع "الجريدة" من القاهرة، أن الشاعر كائن اختبر الألم والعزلة والغياب، لافتة إلى أن قصائدها مرت بمراحل من التجلي والتخبط والتساؤلات والتحليق والحلم، وأنها لا تبحث عن إجابات لعالم مبهم وشائك.. وفيما يلي نص الحوار:
● هل الكتابة تطهير نفسي أم بوح أم شيء آخر؟- نأتي إلى الكتابة من حيث لا ندري، من نقطة موغلة في الغموض والالتباس والإبهام. هي في الوقت ذاته نقطة ضوء تستجمع الحواس المرئية والباطنية، وتستنفر ما تشكل في الداخل من معرفة وأسئلة وجراح. في لحظة ارتطام مفاجئة بالكون تكون اللغة هي المنقذ وهي النجاة الموجعة والمتوهجة ليكون الشعر. نقف في كل مرة على مسافة فارقة بين الممكن والمستحيل، بين الحياة والموت، بين الجمال والغياب. بالكاد نمسك بظلال الحقيقة في مواجهة مصير مجهول، وحياة مترنحة بين التوق والتحقق. تكون الكتابة هنا رصداً لمأزق الإنسانية، وطرحاً حارقاً لمعضلة الوجود، ومكابدات الروح في نزوعها الأبدي إلى الحرية. لا نشرق إلا من جهة الفن في قدرته على رتق يُتمٍ وجودي، وكلمات ممزوجة بالنور والنار والماء والتراب والهواء. تلك أنفاس الكتابة الإبداعية التي يحلِّق معها الكائن الشعري في سماوات أخرى. لا أعرف إن كان ما أكتبه تطهيراً، أو تحريراً، أو تجلياً لكينونة ناقصة. لا أعرف إن كنت تعمدت بنار أزلية من كتب احترقت بين أصابعي، وتوهجت بها. لا أعرف إن كان الشعر يبدأ من الغياب وينتهي في كلمات قد تحملنا إلى النجوم، وقد تكون قبوراً لما يمكن أن تفضي إليه مصائر كائن هش يؤسس ليهدم الزمن ما بناه، لتتوارى خطواته في الرمل كما الفناء.● ما الأسئلة التي تحاولين الإجابة عنها عبر ما تكتبين؟- الشاعر كائن اختبر الألم والعزلة والغياب، ينصت إلى دبيب الحياة والأشياء والعالم، يلتقط الشعر من العابر والمنسي والمهمل والغائب والمقصى والهامشي. يرى الشعر فيما يسقط ويتلاشى وينكسر ويحوّله إلى مباهج وأعياد وأناشيد وأعراس تقيم في التخوم، وتستدعي الخلود والمجد الذي يفضح تراجيديا الإنسان ومغامرته المنتهية على حافة الهاوية. لا إجابات فيما أكتب، أنا سليلة السؤال العنيد الحار. لا أبحث عن إجابات لعالم يظل مبهما وشائكا بالنسبة إليّ. ذلك التشابك المضني مع الأسئلة والوجود هو حالة تتلبس الشعر في كل مكان وزمان. قدرنا أن نعبر ونحن ملغمون بكل ذلك. من ثمة يتصور الشاعر أنه يقبض على الجمال ليخفف من قسوة الطريق والغربة. الكتب كانت دائماً ملاذاً وروحاً أخرى تمسح على خطواتنا المجروحة، وتفتح عيوننا على الأسرار والكلمات والضوء.● منذ البدايات وحتى الآن كيف تصفين المحطات الرئيسية التي مرت بها قصيدتك؟- يحاول الشاعر الاشتغال على ذاته وتطوير تلك الملكات والحواس والتدريب القاسي على التأمل والقراءة والبناء والهدم في أرض اللغة والانتباه والإنصات إلى الموجودات والكائنات والروائح والظلال والألوان والمذاقات والأصوات التي تأتي من جهات العالم ليتداخل فيها ويخبر سرها وروحها ويصوغها في أناشيد عالية تصل إلى الآخرين بسلاسة وحلاوة وشجن وعمق يمتلكه الشاعر على نحو حاد ودقيق وثاقب من خلال تجاربه وتجريبه للكتابة في حالاتها القصوى. مرت قصيدتي بحالات تجلٍّ وتخبط ومساءلات، بسوداوية وتوهجات، بتحليق وحلم، بهشاشة وانتظار. القصيدة مثل المرأة، ومثل الأرض كما يقال لا تملك إلا الانتظار. انتظار شاعر ترتفع به وتضيء وتتجلى في ولادات متكررة.● أيهما تنشغلين به أكثر: اللغة أم الصورة أم لغة الكتابة؟ - المسألة متداخلة ومعقدة في ولادة القصيدة التي تتكئ على اللغة، والمعرفة والفلسفة وروح الإبداع والمغامرة والتجربة. القدرة على الصياغة والتركيب والربط بين المفردات في سياق علاقات مبتكرة، واستدراج المتلقي إلى مناطق غير متوقعة وتربك أفق التلقي والقراءة ليس بالتعقيد والاستغراق في الغموض واستعراض الثقافة، بل بخلطة سحرية هي الجميل البسيط المؤثث بذكاء وذوق وجماليات إنسانية وفنية تتحقق بالممارسة والقراءة والتواضع أمام الكون والاعتراف بالهشاشة الإنسانية التي يرممها الجمال والفن وحده.● بدأ الشعر عمودياً ثم تفعيلة حتى وصل إلى مرحلة النثر، فهل هي تمام النضج أم تتوقعين مزيداً من التطور في ملامح القصيدة مستقبلاً؟- نعم الشعر يذهب دائماً نحو المستقبل. لن يتوقف الشاعر عن التجريب والإضافة الإبداعية وممارسة ذلك التطرف الجمالي، وابتكار أشكال جديدة تستوعب عوالمه المختلفة. ولن يتحقق هذا إلا بطاقة الحرية التي تفتح مسارب جديدة وشاسعة للإبداع.● ينشر مبدعون كُثر عبر السوشيال ميديا، ما مزايا وعيوب ذلك من وجهة نظرك؟ وهل جمهور "الفيسبوك" و"تويتر" جمهور حقيقي؟- النشر عبر المواقع الاجتماعية بقدر ما هو نافذة للتفاعل السريع والمغري بالنسبة إلى كثير من الشعراء إلا أن حقيقة الشعر التأمل والتأني والعزلة وترك مسافة تحمي الشعر من الاحتراق، ومن الضياع الذي يصيب القصيدة. التمييع يقتل الجمال. كلما وضعنا مسافات عقلانية في تعاطينا مع مواقع التواصل نجونا ونجا الشعر من الابتذال والسقوط.● رسالتك للدكتوراه بعنوان "تيمة الموت في الرواية الجزائرية"، لماذا اخترتِ هذا الموضوع تحديداً؟- تيمة الموت في أطروحتي كانت ثمرة ألم فقداني لوالدي في عام 2007. ثمرة مرة لحالة وجودية قاهرة، ليُتمٍ أبدي وندوبٍ جعلتني لا أنتمي إلى الحياة بقدر ما أنتمي إلى الحقيقة الوحيدة في الكون وهي الموت. حتى الحب هو موت. في الحب مت آلاف الميتات.● حدثيني عن مشروعك الشعري الذي تعكفين عليه راهناً وقد يخرج للنور قريباً.- "ديوان العيد" مجموعتي الشعرية الجديدة الجاهزة للطبع، وهي نصوصٌ تحاول أن تبقي على فكرة الحرية والحب الذي لا يكون إلا في الحرية. والكتابة التي تظل ملاذ الغجرية وانتماءها الأجمل والأعمق.
أحمد الجمَّال
الشاعر اختبر الألم والعزلة وينصت إلى دبيب الحياة والأشياء والعالم