لن تنتهي جميع المشاكل مع الأسف، وتشير النماذج المحوسبة إلى احتمال تفاقم الوباء خلال الشهر المقبل. يجب أن نكتشف معلومات إضافية أيضاً عن السلالة الجديدة من الفيروس، إذ يبدو أنها قابلة للانتشار بوتيرة أسرع من دون أن تكون أكثر خطورة.

مع ذلك، ثمة سببان للتفاؤل؛ أولاً، قد يسهم استعمال الكمامات والتباعد الاجتماعي والتدابير الصارمة الأخرى في إبطاء انتشار الفيروس وإنقاذ حياة الناس، تزامناً مع الاستعداد لتوزيع اللقاحات. ثانياً، من المتوقع أن يبدأ استعمال اللقاحات والعلاجات التي نقرأ عنها منذ فترة على نطاق واسع، مما يعني أن أثرها العالمي بات وشيكاً.

Ad

خصائص لقاحات فيروس كورونا

حصد لقاحان (أحدهما من إنتاج شركة موديرنا والآخر من "فايزر" و"بيونتيك") مصادقة رسمية في الولايات المتحدة. وصادقت بريطانيا ودول أخرى على اللقاح الثاني أيضاً. ومن المنتظر أن تعلن شركات أخرى نتائج تجاربها العيادية قريباً.

تستعمل اللقاحات مقاربات مختلفة لمهاجمة الفيروس. تشمل الأنواع التي طوّرتها شركات "موديرنا" و"فايزر" و"بيونتيك" ما يسمّى بتقنية "مرسال الحمض النووي الريبي". من المدهش أن تسمح لنا التكنولوجيا المتطورة الآن بإحراز تقدّم غير مسبوق لمحاربة فيروس كوفيد-19.

ليست مصادفة أن تكون لقاحات الحمض النووي الريبي من أوائل الخيارات المتاحة. يمكن ابتكار هذا النوع من اللقاحات بوتيرة أسرع من الأنواع التقليدية، وهو يعطي مفعوله عبر استعمال مرسال الحمض النووي الريبي الذي يطلق تعليمات تحثّ الجسم على إنتاج بروتينات "سبايك". ثم يتدخّل جهاز المناعة ويهاجم كل ما يعترض طريقه، بما في ذلك فيروس كوفيد- 19.

يكون تصنيع اللقاحات بناء على تقنية مرسال الحمض النووي الريبي سريعاً نسبياً، لأن إنتاج كميات كبيرة من تسلسل هذا الحمض الذي يشفّر بروتينات "سبايك" يبقى أسهل من زرع تلك البروتينات. وعلى عكس معظم اللقاحات التقليدية، لا تحتوي لقاحات الحمض النووي الريبي على أي فيروس، مما يعني أنها لن تُسبّب "كوفيد-19".

لكن مع الأسف، تَقِلّ المصانع القادرة على تصنيع منتجات مرسال الحمض النووي الريبي. كذلك، تبرز الحاجة أحياناً إلى تخزين تلك المنتجات على حرارة 70 درجة مئوية تحت الصفر، مما يُصعّب عملية توزيعها في الدول النامية. هذه المشكلة هندسية بطبيعتها وليست علمية.

لم يسبق أن تهافت هذا العدد من الشركات على إنتاج لقاحات ضد المرض نفسه، لأن تصنيع اللقاحات عملية محفوفة بالمخاطر. قد تمرّ سنوات طويلة قبل طرح المنتج في الأسواق، وقد يكلّف اللقاح مليارات الدولارات، ويترافق مع تحديات علمية كبرى، لا سيما إذا كانت العدوى جديدة مثل فيروس كورونا.

ما الذي دفع هذه الشركات كلها إلى أخذ المجازفة في هذه المرحلة إذاً؟ بناءً على معلومات العلماء والمديرين التنفيذيين في تلك الشركات، يتعلق أحد الأسباب على الأرجح بضرورة استعمال خبراتهم للمشاركة في إنهاء الوباء المستجد. كان مفيداً أيضاً أن تبدي جهات أخرى استعدادها لتحمّل جزء من المخاطر المالية.

في بعض الحالات، جاءت هذه المساهمات من حكومات وطنية مثل الولايات المتحدة أو ألمانيا. وفي حالات أخرى قدّمت جماعات مختلفة مساهماتها، منها "التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة"، الذي حصل على التمويل من "مؤسسة بيل وميليندا غيتس" وشركاء حكوميين وفاعلي خير آخرين.

في مطلق الأحوال، يبقى تطوير اللقاحات جزءاً بسيطاً من التحديات المطروحة. حتى أنه قد لا يكون أصعب جزء من هذه الجهود.

اختبار تشخيص "كوفيد-19" المزعج أصبح بالياً!

يسود ارتباك واسع حول اختبار تشخيص "كوفيد- 19" ولا بدّ من تحديد الفحوصات الفاعلة وغير المجدية.

تستدعي ثلاث حالات مختلفة إجراء ذلك الاختبار، أبرزها ظهور أعراض حادة. في هذه الحالة، يكون الفرد مريضاً بما يكفي كي يذهب إلى عيادة الطبيب أو المستشفى، ويحتاج الطبيب إلى تقييم وضعه لتحديد طريقة معالجته. في المراحل الأولى، واجه قطاع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة صعوبة في إجراء اختبارات كافية لتلك الحالات، لكن عولجت هذه المشكلة لاحقاً.

في حالات أخرى، قد تتعرّض للفيروس، لكن تكون أعراضك خفيفة أو لا تظهر لديك أي أعراض. في هذه الحالة، يجب أن تتأكد من التقاط العدوى كي تعزل نفسك عن محيطك وتحمي الآخرين. حتى لو لم تظهر أي أعراض أو تأخرت في الظهور، قد تنقل فيروس كوفيد-19 إلى المحيطين بك. لذا يجب أن تعرف نتيجة فحصك في أسرع وقت.

أخيراً، تبرز الحاجة إلى إجراء الاختبار أيضاً لمراقبة مسار المرض. لا يعني ذلك أن يخضع الناس للمراقبة، بل تسمح هذه العملية لخبراء الصحة العامة بتقدير عدد الحالات في منطقة معيّنة ومعدل تسجيل الإصابات الجديدة. بفضل هذه المعلومات، يستطيع المسؤولون الحكوميون أن يتخذوا قرارات مدروسة حول أفضل الطرق لمنع الفيروس من الانتشار.

تُموّل مؤسستنا حملة محلية في سياتل لسد الثغرات القائمة. شارك آلاف الناس في هذه المنطقة (بعضهم مصاب بأعراض واضحة والبعض الآخر بلا أعراض) في استطلاع قصير عبر الإنترنت وأجروا اختبارات ذاتية عبر أخذ عيّنة من طرف أنوفهم وإرسال النتائج لتحليلها. وتستمر التحضيرات لإطلاق جهود مماثلة في سان فرانسيسكو أيضاً.

يسمح ابتكار عملي بتسهيل هذه العملية، إذ يستطيع الناس أن يجمعوا عيّناتهم الخاصة من الأنف بعود قطني. تكون الاختبارات الحاصلة عبر البلعوم الأنفي مزعجة جداً، وقد تدفع الفرد إلى السعال أو العطس. إنه عامل سيئ إذا كان الشخص يحمل فيروساً تنفسياً مثل "كوفيد-19" لأنه يزيد المخاطر المطروحة على العاملين في القطاع الصحي. لحُسن الحظ، من المتوقع أن يتوقف استخدام الاختبارات التي تقضي بإدخال عود إلى أعلى الأنف قريباً.

تساعد المشاريع الحاصلة في سياتل وسان فرانسيسكو الباحثين على رصد طريقة انتشار الفيروس. سيكون نظام توزيع حُزَم الاختبارات ومعالجتها مفيداً في المستقبل لرصد أي مسببات أمراض جديدة.

تكثر مشاكل الاختبارات في إفريقيا جنوب الصحراء تحديداً. تعجز معظم الدول في هذه المنطقة عن تحمّل كلفة أدق الاختبارات، وتفتقر إلى البنى التحتية اللازمة لإجراء دراسات مراقبة، ولهذا السبب لا يتلقى صانعو السياسة هناك معلومات مستحدثة.

ينجح الابتكار الجديد في حل هذا النوع من المشاكل تحديداً. تعمل شركات عدة على اختراع اختبارات سريعة يمكن إنتاج عشرات ملايين النسخ منها، بما في ذلك الشركة البريطانية "لوميرا دي إكس" التي ابتكرت جهازاً بحجم هاتف خليوي سميك، وفيه قارئ بطاقة على أحد أطرافه. يأخذ عامل في القطاع الصحي عيّنة من المريض ويضعها داخل الآلة ويتلقى النتائج خلال 15 دقيقة. وبعد حذف أي معلومات شخصية قد تُعرّف عن المريض، يُحمّل الجهاز النتائج على خادم مركزي. ثم يستعمل المحللون تلك البيانات لمتابعة المرض في الوقت الحقيقي، مما يمنح صانعي السياسة معلومات مستحدثة حول المناطق التي تحتاج إلى تكثيف جهود الوقاية والعلاج.

تشارك مؤسستنا في حملة أولية لتوزيع 5 آلاف قارئ في 55 دولة إفريقية. يبقى هذا العدد صغيراً نسبياً في هذه المنطقة الشاسعة، لكنها بداية واعدة. وقد لا تقتصر المنافع على عدوى "كوفيد - 19"، إذ يمكن استعمال الآلات نفسها مستقبلاً لتشخيص فيروس نقص المناعة البشرية والسل وأمراض أخرى.

في الوقت نفسه، تعمل شركات أخرى على تخفيض كلفة الاختبارات الدقيقة المستعملة راهناً وتسريع مفعولها، وتحاول زيادة تصنيع اختبارات أقل دقة وكلفة (من عشرات الآلاف يومياً إلى ملايين الجرعات). لقد أصبح إيقاع الابتكارات في هذا المجال باهراً بمعنى الكلمة، ومن المتوقع أن يفيد الجميع.

ما وضع الدول النامية؟

لقد كنتُ مخطئاً لحسن الحظ (أو أتمنى أن أكون مخطئاً على الأقل) حين توقعتُ أن يستفحل فيروس كوفيد - 19 في الدول ذات الدخل المنخفض.

الوضع مختلف حتى الآن. في معظم مناطق إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً، لا تزال معدلات الإصابات والوفيات أقل بكثير من الولايات المتحدة أو أوروبا وشبه مساوية لمعدلات نيوزيلندا التي جذبت الأنظار بفضل تعاملها الفاعل مع الفيروس. كان جنوب إفريقيا البلد الأكثر تضرراً في القارة الإفريقية، ومع ذلك يبقى معدل الإصابات هناك أقل من الولايات المتحدة بنسبة 40 بالمئة وعدد الوفيات أقل بنسبة 50 بالمئة تقريباً.

لا نملك بيانات كافية بعد لفهم سبب عدم ارتفاع الأرقام هناك بقدر ما كنّا نتوقع. استفاد بعض البلدان من فرض الإقفال التام منذ مرحلة مبكرة. قد يتعلق سبب آخر في إفريقيا بارتفاع أعداد الشباب بين السكان، مقارنةً ببقية دول العالم، ومن المعروف أن الشباب يكونون أقل عرضة للفيروس. أو ربما يتعلق سبب آخر باعتياد السكان الريفيين في معظمهم على تمضية وقت طويل في الخارج، حيث يصعب أن ينتشر الفيروس. أو ربما تكون الأرقام الحقيقية أعلى من الأرقام المعلنة، لأن الثغرات الموجودة في أنظمة الرعاية الصحية في الدول الفقيرة تُصعّب مراقبة مسار العدوى بدقة.

على صعيد آخر، كان أحد مخاوفي مبرّرا، فقد تبيّن أن فيروس كوفيد- 19 ينعكس على أمراض أخرى. في الشهر الماضي، فوجئت حين علمت أن هذه العدوى تحتل المرتبة 31 فقط على لائحة أسباب الوفاة الأكثر شيوعاً في إفريقيا، علما بأنها تحتل المرتبة الرابعة عالمياً والمرتبة الأولى في الولايات المتحدة.

ما سبب تراجع مرتبتها لهذه الدرجة في إفريقيا؟ لا يقتصر السبب على انخفاض عدد الإصابات بفيروس كوفيد-19 هناك، بل إن تركيز العاملين في القطاع الصحي على محاربة الفيروس أعاق الجهود الرامية لرصد ومعالجة فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز والملاريا والسل وأمراض أخرى. نتيجةً لذلك، احتلّ فيروس كوفيد - 19 مرتبة متدنية على لائحة التهديدات الصحية مقابل تجدّد مخاطر المشاكل الأخرى.

يتعلق سبب آخر بتردد المرضى في الذهاب إلى العيادات الطبية خوفاً من التقاط العدوى المستجدة، مما يعني عدم تشخيص حالات أكثر حدة. في الهند مثلاً، تراجع معدّل تشخيص السل بنسبة الثلث تقريباً، ومن المتوقع أن يموت عدد إضافي من الناس بسبب هذا المرض نظراً إلى زيادة الحالات غير المكتشفة.

إنه سبب آخر لحث العالم على إيصال الأدوات الإنقاذية إلى جميع الدول، بدل التركيز على البلدان الغنية، تزامناً مع تسهيل استعمالها.

فيروس كورونا والمناخ ومسار السنة المرتقبة

في الربيع الماضي، حين بدأ نطاق الوباء يتّضح للجميع، كتبتُ ما يلي: "الوضع أشبه باندلاع حرب عالمية، لكننا نحارب جميعاً على الجبهة نفسها هذه المرة".

أنا مسرور لأنني كنتُ على حق في تفاؤلي حين توقعتُ أن يتكاتف العالم أجمع لمحاربة فيروس كوفيد - 19. ما كنا لنحرز هذا التقدم كله لو لم يكن التعاون بين الحكومات والشركات والعلماء حول العالم مكثفاً لهذه الدرجة.

أنا متفائل بشأن السنة المقبلة بسبب هذا التعاون العالمي، ولا يقتصر تفاؤلي على جهود التحكم بالوباء. بل أظن أن العالم لديه فرصة قيّمة لاتخاذ خطوات ملموسة في واحد من أكبر التحديات المعاصرة: التغير المناخي.

في السنة المقبلة، سيجتمع القادة من جميع أنحاء العالم في غلاسكو، اسكتلندا، لحضور أول قمة واسعة للأمم المتحدة حول التغيّر المناخي منذ اتفاق باريس في عام 2015. تستعد الولايات المتحدة لاسترجاع دورها القيادي في مجال تطوير ابتكارات الطاقة النظيفة ونشرها للتخلص من غازات الدفيئة.

أتمنى أن أمضي معظم وقتي في عام 2021 وأنا أتحاور مع القادة حول العالم بشأن التغير المناخي وفيروس كوفيد - 19. في الرسالة السنوية التي سأكتبها أنا وزوجتي ميليندا في الشهر القادم، سأتطرق إلى الدروس المستخلصة من تجربة العالم مع هذا الفيروس، استعداداً للوباء المقبل.

وفي شهر فبراير سأصدر كتابي الجديد الذي يحمل عنوانHow to Avoid a Climate Disaster (كيف نتجنب كارثة مناخية)، حيث أتقاسم مع القراء الدروس التي تعلّمتُها بعد تحليل هذه المشكلة والبحث عن حلول لها طوال 15 سنة. أتمنى أن يسهم هذا الكتاب في إعطاء طابع مثمر للنقاشات الحاصلة.

بعد سنة من الآن، أظن أننا سنتمكن من مراجعة عام 2021، ونستنتج أنه كان أفضل من عام 2020. قد لا يكون هذا التحسّن هائلاً، لكنه يبقى خطوة ملحوظة ومهمة لجميع سكان العالم.

أتمنى أن تكون سنة 2021 آمنة وصحية للجميع!

بيل غيتس