تشير "القوة الناعمة" إلى الأدوات الموجودة في ترسانة الدولة القومية، فلا تفرض هذه الأخيرة العقوبات ولا تقدم المكافآت ولا تهدد اللاعبين الآخرين لإجبارهم على تبنّي سلوك معيّن. ويتناقض هذا المفهوم مع "القوة الصلبة" التي تشمل الأدوات المبنية على مبدأ العصا والجزرة في العلاقات الدولية. وتُبنى القوة الناعمة مثلاً على تبادلات ثقافية ومبادرات دبلوماسية عامة لتحديد وجهة السلوكيات. أما القوة الصلبة، فقد تَعِد صراحةً بحوافز تجارية وتُهدد بفرض عقوبات اقتصادية أو إطلاق تحركات عسكرية.

العالِم جوزيف ناي ابتكر مفهوم "القوة الناعمة" للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، لكن تُطبّقه الدول القومية عملياً منذ قرون طويلة. لكنه لم يكتسب بعدُ المصداقية أو الإشادة بقدر القوة الصلبة في مجال الأمن القومي. حتى أن القوة الناعمة الأميركية بدأت تتراجع على بعض المستويات. بسبب مشروع "القوة الناعمة 30"، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الخامسة عالمياً في عام 2019، وهي أدنى مرتبة تُحققها منذ بدء المشروع.

Ad

داخلياً، يعكس هذا التراجع الاختلافات في مخصصات الميزانية لوزارة الدفاع (القوة الصلبة) ووزارة الخارجية (القوة الناعمة) في آخر عشرين سنة. يمكن نَسْب جزء من هذا التفاوت إلى فارق التكلفة بين النهجَين (تكون أي حملة في مجال العلاقات العامة أقل كلفة من حملات القوات الجوية)، لكن يكشف الاختلاف المتزايد بين القطاعَين الاتكال الأميركي المفرط على القوة الصلبة.

ونظراً إلى تراجع تكاليف القوة الناعمة ومخاطرها نسبياً، تزامناً مع النجاحات المحدودة للحملات العسكرية منذ عام 2000، لا مفر من التساؤل: لماذا لم تنتقل الولايات المتحدة إلى سياسة خارجية يتوسع فيها هامش القوة الناعمة بدل مبادرات القوة الصلبة المضخّمة؟

تطوير مقاربات القوة الناعمة مسار معقد

تستهدف مقاربات القوة الناعمة البشر بجميع تعقيداتهم الفردية. أما مقاربات القوة الصلبة، فتقدم للمخططين مجموعة فورية ومباشرة من الأهداف والمباني ومستودعات القنابل والحسابات المصرفية. الوضع مشابه تقريباً في العراق لأنه ضمن نطاق القصف الأميركي، وهذا ما يجعله يردّ بالطريقة نفسها على مختلف أساليب إطلاق النار. في المقابل، تتأثر الأولويات والقناعات والمعايير الاجتماعية بأي عدد من العوامل، مما يعني أن سكان بلدة معيّنة خارج نيروبي مثلاً يردّون بطريقة مختلفة جداً على الرسالة نفسها التي يتلقاها سكان الضواحي خارج شيكاغو. تتطلب هذه الدينامية مستوىً هائلاً من الخبرة والتنسيق بين الوكالات والمقاربات المتعددة الاختصاصات.

لنراجع مثلاً "مبادرة القيم المشتركة": كانت هذه الحملة من نوع القوة الناعمة وتهدف إلى نشر المشاعر المؤيدة للولايات المتحدة في أنحاء العالم الإسلامي في أواخر عام 2002. أطلقت مديرة الإعلانات تشارلوت بيرز هذه الفكرة لإقناع المسلمين في الخارج بأن الإسلام والثقافة الأميركية لا يعتمدان على بعضهما لكنهما يتبادلان الدعم. حاولت وكيلة الوزارة بيرز تطوير حملة معقدة تهدف إلى "الترويج" للولايات المتحدة في الخارج، لكنها فشلت في إقناع الدبلوماسيين الأميركيين بهذا المفهوم رغم دعم وزير الخارجية السابق كولين باول. غداة اعتداءات 11 سبتمبر مباشرةً، سعى صانعو السياسة وعامة الناس إلى إيجاد حلول مباشرة وسريعة بدل مبادرات الرأي العام التي تستهلك وقتاً طويلاً. ارتبط جزء آخر من هذا التحدي بثقافة سائدة في أنحاء وزارة الخارجية مفادها أن العمل الترويجي غير فاعل وأقل مستوى من مهنة الدبلوماسية المحترمة؛ لأن الإعلانات تكون مرادفة للحملات الدعائية في معظم الأوقات.

كثرت الانتقادات حول استحالة الترويج للولايات المتحدة وكأنها منتج للبيع. يعكس هذا النقد مدى تعقيد حملات القوة الناعمة لكنه يرفض في الوقت نفسه المقاربة المتعددة الاختصاصات التي يتطلبها حل هذا التعقيد.

سرعان ما أُلغيت "مبادرة القيم المشتركة" بعد المرحلة الأولى من إطلاقها واعتبرها معظم منتقديها فاشلة. استقالت تشارلوت بيرز بعد وقتٍ قصير على إلغاء الحملة لأسباب صحية بحسب قولها. ويظن مؤيدو هذه السياسة أنها لم تحصل على الفرصة الكافية لإثبات فاعليتها وأُلغيت في مرحلة مبكرة بسبب العيب الثاني في دبلوماسية القوة الناعمة.

صعوبة في تقييم نجاح العمليات

قياس القوة الناعمة صعب، وبالتالي يصعب تقييم مستوى نجاحها. في المقابل، تكون القوة الصلبة التي تُركّز بدرجة إضافية على موارد قابلة للقياس (مال، جنود، رصاص) لعبة حسابية مباشرة، وينطبق المبدأ نفسه على نتائج تطبيقاتها. تهدف القوة الناعمة من جهتها إلى تغيير المواقف ويصعب أن ننسب إليها عدداً أو مستوىً معيناً.

تشمل عملية الاستهداف المشتركة مثلاً مفهومَين تقييميَّين: مقياس الأداء ومقياس الفاعلية. يقيّم مقياس الأداء ما تفعله القوى الصديقة لإتمام المهام المستهدفة ويطرح على المخططين السؤال التالي: "هل نتصرف بطريقة صائبة"؟ أما مقياس الفاعلية، فيقيس أثر تلك الأفعال ويسأل: "هل ننفذ الخطوات المناسبة"؟

ومن خلال استعمال هذين المفهومين في البيئة العسكرية التشغيلية، يستطيع المستهدفون ومحللو الاستخبارات أن يتعقبوا مسار تقدم الحملات ويتأكدوا من حرص القوى الصديقة على ضرب الأهداف الصحيحة بالأسلحة المناسبة لتحقيق النتائج المُحددة مسبقاً.

مع ذلك، تكون آثار القوة الناعمة ملموسة وقابلة للقياس. وتشكّل نجاحات التبادلات الثقافية خلال الحرب الباردة وبرنامج "فولبرايت" للمِنَح الدراسية خير مثال على ذلك. أدت تبادلات الطلاب المتخرجين، كجزءٍ من سياسة الحرب الباردة الأميركية، إلى نتيجتَين مهمتَين. أولاً، نشأت مجموعة من الطلاب الأميركيين المطّلعين على الاتحاد السوفياتي في زمنٍ كانت فيه معظم السياسة الأميركية ترتكز على التخمين والخوف. ثانياً، نشأ على الجانب السوفياتي فريق من العلماء الروس الذين فهموا إلى أي حد كان بلدهم الشيوعي متأخراً وسُمِح لهم بالتمييز بين الحقيقة والحملات الدعائية المحلية والمدعومة من الحكومة. كذلك، كان العلماء في برنامج "فولبرايت" يدرسون في أنحاء العالم ويعودون دوماً إلى بلدانهم الأم لإعادة استثمار معارفهم والاستفادة من خبراتهم، مما سمح بتعزيز التفاهم العالمي وترسيخ الدبلوماسية.

بما أن القوة الناعمة ليست محصورة في إطار الحكومة الأميركية، إذ تساهم القطاعات العامة والخاصة معاً في تعزيز النفوذ الأميركي في الخارج، يمكن رصد آثار هذه القوة بطرقٍ أخرى. لنحلل مثلاً دور اللغة الإنكليزية في هولندا. يتكلم حتى 93 في المئة من سكان هولندا اللغة الإنكليزية، ويمكن نَسْب هذه النزعة في معظمها إلى هيمنة الأفلام والكتب المدرسية الأميركية وتراجع عدد السكان نسبياً.

وقد يعطي قياس نجاح القوة الناعمة مفعوله، لكن سرعان ما تتخذ هذه العملية منحىً نوعياً يتفوق على الناحية الكمّية. يكون احتساب حجم الدمار في مركز تدريبي أو عدد القتلى في صفوف الأعداء أسهل بكثير من تعقب المشاعر المؤيدة للولايات المتحدة في بلدة محورية. يتعلق جزء من هذه المشكلة بالإحساس بالوقت: تنشأ ردود الأفعال على عملية قصف أو تجميد أصول جماعة مؤثرة (إنها مقاربات القوة الصلبة) في الوقت الحقيقي تقريباً. لكنّ احتساب المشاعر المعادية للولايات المتحدة (مقياس القوة الناعمة) في أنحاء منطقة محددة ليس كذلك. يعوق الوقت هذا النوع من الردود على القوة الناعمة بطريقتَين غير متزامنتَين. يحتاج المحللون إلى الوقت لتغيير الأولويات من جهة، ويحتاجون إلى الوقت أيضاً لجمع بيانات جديدة من جهة أخرى. تطلّب التحوّل الحاصل في المجال اللغوي في هولندا مثلاً سنوات عدة قبل أن تتّضح معالمه كاملة. ولم تظهر آثار التبادلات الثقافية أو تنتشر في العلن إلا بعد سقوط الستار الحديدي.

طوّرت جامعة "بورتلاند" ومركز "يو إس سي" للدبلوماسية العامة واحدة من أهم المراجعات الشاملة للقوة الناعمة وصدرت للمرة الأولى منذ خمس سنوات ويتم تجميعها مرة في السنة.

على صعيد آخر، تنتشر تقييمات أضرار المعارك في معظم الأوقات في وقت شبه حقيقي، وقد اتضح ذلك في الأمر الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمهاجمة قاعدة الشعيرات الجوية في سورية في أبريل 2017. غداة تلك الضربة، صدر فوراً تصريح أمام الرأي العام الأميركي. يُعتبر الخطاب السيئ الشهير للرئيس جورج بوش الابن بعنوان "المهمّة انتهت" مثالاً على بساطة النجاح في مجال القوة الصلبة، بغض النظر عن طبيعته المبكرة. كان إقناع الرأي العام المحلي بأن الجهود الأميركية في العراق لم تكتمل فحسب بل نجحت بناءً على نتائج التحرك العسكري سهلاً نسبياً. وتكشف لنا الدروس المستخلصة من علم النفس وخطط التسويق أن البساطة أداة ترويج فاعلة وأن الإقناع يبقى من أصعب التحديات في دبلوماسية القوة الناعمة.

الترويج لنجاح القوة الناعمة هو الأصعب!

لا تحمل القوة الناعمة أهدافاً استراتيجية أكثر تعقيداً، بل يجب أن يكون السلوك البشري المتبدّل الهدف الدائم لأي سياسة خارجية. تكون الأهداف الاستراتيجية للقوة الناعمة أكثر شفافية وتُترجَم بطريقة مباشرة في مراحل تنفيذ العمليات. لكن من الأصعب التعتيم على الأهداف الاستراتيجية خلال أي مبادرة في إطار القوة الناعمة؛ لأن العمليات تستهدف في معظم الحالات السلوكيات والمواقف البشرية ولا يسهل قياس هذه الخصائص.

بشكل عام، يمكن اعتبار السياسة الخارجية الأميركية تقليدية وبطيئة التغيير. لطالما تمحورت هذه المقاربة التقليدية على مبادئ واقعية، مع إعطاء الأولوية للقوة الصلبة. وحتى القسم المُكلّف بإعداد برامج "القوة الناعمة"، على غرار الدبلوماسية والتبادلات الثقافية، يواجه حواجز ثقافية داخلية وتنظيمية خاصة به. في "مبادرة القيم المشتركة" مثلاً، تردد المسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية كثيراً قبل الموافقة على مقاربة متعددة الاختصاصات من إعداد مديرة إعلانات، فاستخفوا بوكيلة الوزارة بيرز وراحوا يُعلّقون على ملابسها وتصرفاتها.

هذا التاريخ من المقاربات التقليدية تخلّلتها فترات من "الصرامة" المتزايدة في الخارج خلال العقود الثلاثة الماضية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط. باختصار، تعطي الولايات المتحدة الأولوية لمبدأ الصرامة والتدابير التقليدية. تواجه القوة الناعمة العوائق في هذا المجال على مستويَين لأنها ظاهرة جديدة كما سبق أن ذكرنا، وهي لا تُعتبر "صارمة" بما يكفي. منذ سنوات، حين كنتُ أشرح معنى القوة الناعمة أمام ضابط شاب في سلاح البحرية الأميركية، تكلمتُ عن نوعَين مختلفَين من القيادة. يشمل النوع الأول تهديدات ومكافآت لحث المرؤوسين على أداء المهام المطلوبة (قد يُطلَب منهم مثلاً إخراج النفايات يومياً أو المجازفة بتقديم شكوى ضدهم). أما النوع الثاني، فيُشجّع على تبنّي السلوك نفسه لكن عبر استمالة المرؤوسين هذه المرة والتصرف كقدوة لهم واكتساب احترامهم، مما يدفع العنصر في القوات البحرية إلى إخراج النفايات لأنه يريد أن يعتبره المسؤولون عنه لاعباً فاعلاً وصالحاً في الفريق من دون استعمال تهديدات أو مكافآت مباشرة. حين سُئِل الضابط عن النوع الذي يفضّله بشكل عام ويعتبره الأكثر فاعلية، أجاب سريعاً بأنه يفضّل الخيار الثاني. قلتُ له: "تعني القوة الناعمة إذاً"! لكنه أجاب: "لا، مازلتُ لا أحبذ هذا المفهوم. إنه أسلوب خفيف أكثر من اللزوم ومن المعروف أن القادة ليسوا متساهلين بأي شكل". يمكن اعتبار هذا الموقف مجرّد حادثة فردية لا تشير إلى نزعة شائعة على نطاق أوسع، لكن يكفي أن نلقي نظرة خاطفة على أي حملة سياسية كي نتأكد من أن صانعي السياسة لا يفوزون في الانتخابات عن طريق التساهل المفرط.

يشير النقاد إلى حدود القوة الناعمة، وهم محقون في هذا الشأن، لكن لا تترك معظم الانتقادات التي تدخل في هذه الخانة الأثر المطلوب. يظن إيريك لي، صاحب مشاريع رأسمالية وعالِم اجتماع في شنغهاي، أن البلدان بالغت في تقدير إمكاناتها في مجال القوة الناعمة منذ نهاية الحرب الباردة. هذا النقد لا يستهدف القوة الناعمة بحد ذاتها بل إنه يعكس اتهاماً بالمبالغة في الاتكال على هذه الأداة أو إساءة استعمالها. لا يعارض موقف لي في جوهره منافع القوة الناعمة بل وجودها العام أو غيابها. لكن يرفض علماء آخرون ينتمون إلى مدرسة العلاقات الدولية الواقعية مجرّد التفكير بفاعلية القوة الناعمة المحتملة لأن معظم جوانب هذه القوة تتكل على لاعبين غير حكوميين وتُعتبر هذه الجهات غير مهمة وفق مبادئ الواقعية. في نهاية المطاف، يظن معظم النقاد بكل بساطة أن القوة الناعمة لا تعطي مفعولها في مجال العلاقات الدولية، لكنهم لا يطرحون أدلة ملموسة ووافرة لإثبات صحة هذا الموقف.

أخيراً، لا بد من الاعتراف بحدود القوة الناعمة، فهي تواجه تحديات حقيقية على مستوى استخدامها الفاعل في عالم السياسة الدولية. لكن لا تشكّل هذه التحديات انعكاساً لفائدة القوة الناعمة بل حجم الاستعداد السياسي لتطبيقها ولا يشكك أيٌّ منها بصلاحية هذه الأداة أو فاعليتها. ترتبط جميع السياسات دوماً بالمعترك السياسي العام، وإذا حاولت الولايات المتحدة إعادة تعريف السياسة الخارجية وتجديد صياغتها في العالم بعد انتهاء زمن الوباء، يُفترض أن يعترف صانعو السياسة في المقام الأول بالمخاطر السياسية المطروحة ويُبدوا استعدادهم لمواجهتها إذا أرادوا تجنب المجازفات غير المبررة كتلك التي ترافق السياسة الخارجية التي تطغى عليها نسخة أحادية البُعد من القوة الصلبة.