غير مأسوف عليها
ها هي تغادرنا، غير مأسوف عليها، متثاقلةَ الخطى، تاركة وراءها ملايين القتلى. في أيامها الأخيرة، ساد شعور عامّ بأنها لا تريد الرحيل، فبدت أيامها الأخيرة طويلة، ولأمر ما، لم توزع روزنامات السنة الجديدة كالمعتاد، مع أن الأيام هي الأيام.ستسقط 2020 من التقويم أخيراً. وقد قيل إنها كانت منعطفاً تاريخياً، وإن الحياة بعدها لن تكون كالحياة قبلها، ولربما تكون صانعةً لتاريخ جديد، إلا أن كل الأزمات الكبرى لم تصنع واقعاً مختلفاً جديداً، في مكوناته وأدواته الفاعلة. ولا يبدو أن أزمة كورونا، على الرغم من فداحتها وتأثيرها الشامل، من ذلك النوع، ولا يبدو أنها ستصنع تاريخاً جديداً، بقدر ما أنها ستعجل بمسارات تاريخية كانت مواربة.أزمة كورونا ربما كشفت واقعاً بائساً يعيشه العالم أكثر مما صنعته، وعجلت باستخدام أدوات موجودة أكثر مما خلقتها؛ ففيها وخلالها، اتضح للعالم التباسُ معنى القوة، التي لم تعد تعني فقط بعداً عسكرياً أو اقتصادياً، بل جوانب أخرى كانت تعامل على أنها عناصر تكميلية، كالصحة والرعاية الصحية، التي برزت كواحدة من أكثر معايير القوة رسوخاً، وتجلت أبعاد رمزية عند إصابة جنود بحاملة طائرات أو قواعد عسكرية بالفيروس، وأخرى رمزية، في كون أكثر الإصابات والوفيات هي بالدول الكبرى اقتصادياً وعسكرياً، وأحدثت فيها هرجاً ومرجاً غير متوقعين. وكان بعداً رمزياً آخر أن أغلبية الدول التي تعاملت بحصافة مع الوباء ونجحت، نسبياً، كانت قياداتها من النساء. وكان بعداً حقيقياً، هذه المرة، أن القيادة الفاعلة هي القيادة التي تهتم بشؤون الناس وخيرهم، دون استهتار وغرور.
كشفت أزمة كورونا عن إمكانية انهيار نظم اجتماعية وسياسية بغمضة عين، فبين ليلة وضحاها جرت على حس "كورونا" أكبر عملية إقامة جبرية في تاريخ البشرية، وتم حبس الناس في منازلهم، وتوقفت حركة التنقل كما لم يحدث من قبل، كما انهار نظام التعاون الدولي، الذي كان يفترض أنه تأسس، وأنتج، وأنجز، كما صار الحجر على الناس وتعقبهم وانتهاك خصوصياتهم، أمراً مقبولاً واعتيادياً. بالمقابل، فإن أوجاع الدنيا وآلامها من الجوع والفقر والحرمان والتشرد وانعدام الجنسية واللجوء والتمييز وخطاب الكراهية، وهي أوبئة لا تقل فتكاً وتدميراً للعالم من "كورونا" وأخواته وتحولاته، ظلت تنهك البشر دون توقف.قد يكون العلم انتصر جزئياً، وهو أمر جيد وإيجابي، في مقابل الجهل ونظرية المؤامرة، وقد تكون مؤشرات انتصار العلم بإنتاج لقاح أو لقاحين أو ثلاثة أو عشرة، إلا أن مآسي الدنيا أكثر تعقيداً من المختبرات، وشركات الأدوية، التي ستجني الكثير من تلك اللقاحات.ربما يرحل "كورونا"، غداً أو بعد غد، أو بعد عام، إلا أن عجلة التاريخ تقول إن وباءً آخر سيأتي، وربما أكثر ايذاءً، وسنعود إلى نفس حفلة الزار المليئة بالطبول الخاوية، غير أن ما هو أبعد من ذلك هو المآسي التي يعيشها البشر بسبب بشر آخرين، وهم كثر."كورونا" كشف ما هو عابر، أما الثابت من الألم فمتأصل في الواقع المعيش، وهو الحالة الطبيعية التي يراد العودة إليها، لن ينقذها لقاح مهما كانت درجة فعاليته وأمنه.