الخروج من سجن المافيا السياسية والتجارية
يعيش العالم منذ قرن من الزمان في معاناة حقيقية تسعى إلى إعادة استعباد الإنسان؛ استعباد يمتهن كرامته الآدمية، ويهدر حقوقه الإنسانية، ويجحد تكريمه الخَلقي، ويسلبه أمنه وهدوءه وطمأنينته.فقد نشأت وتكونت عدة حركات اجتماعية وثقافية وسياسية في محاولات إعادة استعباد الإنسان، منذ أن سقطت عبودية الإقطاع ومعها عبودية الثورة الصناعية، فقد عاش الإنسان في ظلهما عبودية مقيتة بُنيت أولاهما على السخرة النابعة من التملك المطلق والهيمنة على موارد الحياة وأركانها، ومنها ملكية الأرض وما عليها من إنسان وحيوان ونبات وماء وهواء وموارد طبيعية أو مصنعة، حتى غدا الإنسان متاعاً مملوكاً يُباع ويُشترى دون قيمة له أو اعتبار.أما ثانيهما فتعمد إلى تحويله لكائن مسلوب الإرادة، يتم تحريكه وتشغيله والتصرف فيه، أو تحديد صلاحيته والحاجة إليه، أو إنهاؤه تماماً، كأنه آلة من آلات الثورة الصناعية.
ومنذ قرن من الزمان نُقِل العالم نقلة نوعية كُسرت فيها أغلال العبودية المستحدثة، وتم إنهاء الإقطاع ونواميسه وأنظمته، فتحرر الإنسان من كونه متاعاً يتم تملّكه فيُباع ويُشترى، وكذلك تم القضاء على ملكيات المنشآت الصناعية واحتكارها المطلق، وتحرر الإنسان من أَسْرِهِ ضمن الأدوات والآليات ليكون شريكاً ومالكاً، وإثرها أصبح البحث حثيثاً عن أنظمة وسبل تعيده إلى حالة العبودية من جديد، بنمط آخر يتواكب مع مستجدات العصر الجديد والعالم المختلف.وعرف العالم الجديد عهداً للنهضة البشرية القائمة على الثقافة المعرفية، والمقومات الحضارية، والتكافؤ الإنساني، والوثائق الدستورية، ومدونات الحقوق والحريات، واتساع رقعة الحرية الشخصية والخيارات الديمقراطية والمؤسسات التعليمية والمعلوماتية العصرية بلا قيود أو احتكار، فصارت هذه هي ركائز تحرير الإنسان.وجميع تلك الركائز كان للإسلام فضل الأسبقية فيها، من خلال تمكين الإنسان منها من لحظة تحريره من عبودية العباد، وتحويله إلى عبودية رب العباد وحده، وهو ما عبّر عنه سيدنا عمر بن الخطاب بوضوح في مقولته المشهورة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"؟ وهكذا، جاءت النواميس الاقتصادية المعاصرة لتكون هي مكونات الاستعباد الجديد للإنسان، فظهرت فكرة اقتصادات السوق، والشركات العملاقة العالمية العابرة للحدود، وتنامى الإقطاع السياسي مع الديمقراطيات الهشة، والمعرفة العالمية والعولمة وتحويل العالم- على سعته - إلى قرية صغيرة تحت شعار خدمة الإنسان، في حين أن غاياتها الحقيقية كانت التحكم فيه وأسره وإعادته لأقفاص العبودية في نمطها الجديد، الذي تتحكم فيه المافيا التجارية والاقتصادية كما نراها اليوم في عالمنا المعاصر. لقد تحولت حركة المجتمعات من منطلقات تحرير الإنسان، إلى محددات ونظم لاستعباد الإنسان وتقييده، ففي كل المجتمعات صار الإنسان خاضعاً لنظام السخرة والتحكم في شؤونه، فهو ينهض في صباحه ليكون أسيراً لموقع عمله - حكومياً كان أو خاصاً - ويمضي وقته في عبودية موقع العمل، أو تحسين دخله وإعالة مَن هو مسؤول عنهم أو تعليمهم أو تطبيبهم، حتى فقدت الأسرة كيانها، وتلاشى دورها المهم القائم على كونها حاضنة أساسية للفرد تجهّزه للانخراط في المجتمع.ونجم عن ذلك أن صار كل جهد الإنسان العادي وتفكيره مسخّرَين لزيادة نفوذ أصحاب القرار - غير المؤهلين أساساً - أو لتنمية ثروة أصحاب العمل ونفوذهم، فصار صاحب القرار وصاحب العمل شريكين متضافرين لاستعباد هذا الإنسان.الآن، توضع التشريعات، وتصدر الأنظمة والقرارات، وتطبّق التعليمات باتجاه تكريس سلب إرادة الإنسان وجعله رهناً لهم منذ استيقاظه حتى مبيته، فهو إما مستعبد لأنظمتهم ومعزز لها، أو يقضي حياته مُكيِّفاً لها وفقاً لمحدداتها ونواميسها أو مُستنزفاً لقدرته للتصدي لها.وبذلك، فما إن ينتهي الإنسان المعاصر من محاولة التغلب على نظام أو قرار ما، حتى يجد نفسه قبالة نظام أو قرار آخر.وهكذا، صار إنسان العصر في سجن المافيا السياسية والتجارية، وضَعُفت قدرته على التخلص منها، حتى أصبح من اللازم الوصول إلى حلٍّ للتغلب عليها والتخلص منها، ليستعيد الإنسان حريته.