من الواضح أن الرأسمالية الأميركية لا تخدم أغلب الأميركيين، ففي حين يعيش المنتمون إلى النخب المتعلمة حياة أطول وأكثر ازدهارا، يموت الأميركيون الأقل تعليما- الذين يمثلون ثلثي السكان- في سن أصغر ويجاهدون بدنيا واقتصاديا واجتماعيا.نتناول هذا الانقسام المتنامي بين الحاصلين على شهادة جامعية لأربع سنوات وأولئك من غير الحاصلين عليها في صميم كتابنا الأخير بعنوان "الموت يأسا ومستقبل الرأسمالية". تتركز الزيادة في الوفيات التي نصفها في الكتاب بشكل كامل تقريبا بين أولئك من غير الحاصلين على درجة البكالوريوس، أو المؤهل الذي يميل أيضا إلى تقسيم الناس في ما يتصل بالتوظيف، والأجر، والمرض، والزواج، والتقدير الاجتماعي، وجميعها مفاتيح لحياة حسنة.
وتتوالى فصول جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19) على نحو مماثل، إذ كان العديد من المهنيين المتعلمين قادرين على العمل من المنزل- لحماية أنفسهم ورواتبهم- في حين فقد العديد من العاملين في مجالات الخدمات والتجزئة وظائفهم أو يواجهون مخاطر مهنية أكبر، وعندما تصل الحصيلة النهائية، فليس هناك من شك في أن الخسائر الإجمالية في الأرواح والأموال ستكون مقسمة على أساس خط الصدع التعليمي ذاته.محاذاة تعمل الجائحة أيضا على تغيير مشهد الأعمال، فتحابي الشركات الضخمة على حساب الشركات الصغيرة، وشركات التجارة الإلكترونية على حساب الشركات التقليدية. الواقع أن العديد من الشركات الكبيرة، وخصوصا شركات التكنولوجيا الضخمة، توظف عددا قليلا من العمال مقارنة بتقييماتها في السوق، ولا تقدم الوظائف الجيدة التي كانت متاحة ذات يوم للعمال الأقل تعليما في شركات الاقتصاد القديم.كانت هذه التغييرات في طبيعة تشغيل العمالة جارية لسنوات عديدة، لكن الجائحة تعمل على التعجيل بحدوثها، وكانت الحصة من الدخل الوطني المستحقة للعمالة، وستظل، في انخفاض طويل الأمد، وهو ما ينعكس في سوق الأوراق المالية التي تسجل ارتفاعات غير مسبوقة اليوم. ومرة أخرى، يوضح اتجاه الأسواق الصاعد أثناء الجائحة أنه مؤشر للأرباح المتوقعة في المستقبل (وليس الدخل الوطني): حيث ترتفع أسعار الأسهم عندما تتقلص حصة العمالة في الفطيرة الاقتصادية.اعتمادا على مدى سرعة وانتشار لقاحات كوفيد19 التي اعتُـمِـدَت مؤخرا، ستنقلب بعض هذه الاتجاهات، ولكن لبعض الوقت فقط. تُـرى ما حصيلة الوفيات التي يمكن أن تتوقعها أميركا في عام 2021؟ سجلت الولايات المتحدة بالفعل أكثر من 340 ألف وفاة بمرض فيروس كورونا في عام 2020، وكان إجمالي الوفيات الزائدة- بما في ذلك الوفيات بكوفيد19 التي لم تسجل على أنها كذلك، والوفيات بسبب حالات أخرى ناجمة عن الجائحة بشكل غير مباشر- أكبر بنحو الربع.علاوة على ذلك، حتى في حال توزيع اللقاحات على نطاق واسع بحلول منتصف عام 2021، فقد تشهد الولايات المتحدة عدة مئات آلاف أخرى من الوفيات المرتبطة بالجائحة قبل أن تنقضي تماما، ناهيك عن الوفيات الإضافية التي كان من الممكن منعها عن طريق الكشف المبكر عن أمراض أخرى كانت موضع تجاهل أثناء الجائحة، أو علاجها.انحسار الجائحةعلى أية حال، يمكننا على الأقل أن نتطلع إلى مستقبل حيث تنحسر جائحة كوفيد19 كسبب رئيس للوفيات في الولايات المتحدة، ولكن لا يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن الموت يأسا (الانتحار، والجرعات الزائدة العَـرَضـية من العقاقير المخدرة، وأمراض الكبد الناتجة عن تعاطي الكحوليات)، الذي حصد أرواح 164 ألف إنسان في عام 2019، مقارنة بالمستوى "المعتاد" في الولايات المتحدة الذي بلغ نحو 60 ألف سنويا (استنادا إلى بيانات من ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين).على الرغم من ارتفاع عدد الجرعات الزائدة من العقاقير المخدرة في عام 2019، واستمرارها في الارتفاع في عام 2020 قبل الجائحة، فإن التنبؤات بحدوث حالات انتحار جماعي أثناء عمليات الإغلاق لم يتم التحقق منها بعد في أي بلد، ولا نتوقع أن يتم التحقق منها قريبا.في عملنا السابق، أظهرنا كيف ترادفت حالات الانتحار وغيرها من وفيات اليأس مع التدمير البطيء الذي طرأ على حياة الطبقة العاملة منذ سبعينيات القرن العشرين، ومن المعقول تماما الآن أن ترتفع الوفيات في الولايات المتحدة مرة أخرى مع تحول بنية الاقتصاد بعد الجائحة. على سبيل المثال، من المرجح أن تخضع المدن لتغيرات جذرية، مع انتقال العديد من الشركات من المباني الحضرية المتعددة الطوابق إلى المباني المنخفضة الارتفاع في الضواحي، وإذا انخفضت معدلات السفر اليومية إلى العمل وإيابا إلى البيت نتيجة لهذا، فسيتقلص عدد الوظائف الخدمية في صيانة المباني وتوفير وسائل النقل، والأمن، والطعام، ومواقف السيارات، والبيع بالتجزئة، والترفيه، وفي حين أن بعض هذه الوظائف ستنتقل، فستتلاشى وظائف أخرى ببساطة، وعلى الرغم من ظهور وظائف جديدة تماما أيضا، فلن يخلو الأمر بكل تأكيد من قدر كبير من الارتباك في حياة الناس.مخدرات شوارعترجع الجرعات الزائدة اليوم بشكل كبير إلى مخدرات شوارع غير قانونية (الفنتانيل والهيروين)، لا المواد الأفيونية الموصوفة بشكل رسمي، كما كانت الحال في الماضي القريب، وفي نهاية المطاف ستصبح هذه الجائحة بالذات تحت السيطرة، ولكن لأن أوبئة المخدرات تميل إلى المجيء في أعقاب نوبات كبرى من الاضطرابات الاجتماعية والدمار، فيتعين علينا أن نكون مستعدين لأوبئة جديدة في المستقبل.يعاني الاقتصاد الأميركي منذ فترة طويلة من ارتباك واسع الانتشار، بسبب التغيرات التي طرأت على تقنيات الإنتاج، وخصوصاً الأتـمـتة، وبدرجة أقل العولمة، وقد تفاقمت بشكل كبير الاضطرابات الحتمية في تشغيل العمالة، لا سيما بين العمال الأقل تعليما والأكثر عُـرضَـة لهذه الاضطرابات، بسبب عدم كفاية شبكات الأمان الاجتماعي ونظام الرعاية الصحية الباهظ التكلفة بدرجة تتنافى مع العقل. ولأن هذا النظام يُـمَـوَّل إلى حد كبير من خلال التأمين من جانب صاحب العمل، والذي يتفاوت بعض الشيء وفقا للأجور المكتسبة، فإنه يفرض القدر الأعظم من العبء على العمال الأقل مهارة، الذين تستبعدهم السوق من الوظائف الجيدة.الحق أن الجمود التشريعي المزمن في واشنطن العاصمة يجعل من الصعب أن يتفاءل المرء بشأن إمكانية تخفيف هذه المشاكل. ولكن إذا كان هناك أي وقت مناسب لكسر هذا الجمود السياسي، فهو الآن.* آن كيس أستاذة الاقتصاد والشؤون العامة الفخرية في جامعة برينستون، وأنجوس ديتون حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد والشؤون العامة الفخري في كلية برينستون للشؤون العامة والدولية، اشتركا في تأليف كتاب «الموت يأسا ومستقبل الرأسمالية»، الذي رُشِّـح لجائزة فاينانشال تايمز وماكينزي لأفضل كتاب للأعمال في العام.
مقالات
الحياة والموت بأميركا في 2021
30-12-2020