هل ستضطر الولايات المتحدة لإضعاف التزاماتها تجاه الشرق الأوسط بهدف تقوية مكانتها التنافسية أمام الصين؟ بعدما سئمت الطبقة السياسية الأميركية من "الحروب اللامتناهية"، بدأت الدعوات لفك الارتباط عن الشرق الأوسط تتمحور حول ضرورة استعمال موارد إضافية في غرب المحيط الهادئ. صدر موقف مماثل حديثاً عن السيناتور جوش هاولي (جمهوري عن ولاية ميسوري)، فاعتبر هذا الأخير أن الالتزام الأميركي بالهيمنة الليبرالية العالمية تزامن مع شن حروب لامتناهية في العراق وأفغانستان وسورية.كان هاولي ينتقد السياسة الخارجية الأميركية في عهد بوش وأوباما بأسلوب لاذع، وهو يدعو الولايات المتحدة اليوم إلى إعادة توزيع جهودها باتجاه آسيا على اعتبار أن الصين تطرح تهديداً عابراً للأجيال يتفوق بخطورته على تهديد الاتحاد السوفياتي في الماضي. يقضي الحل برأي هاولي ببناء قدرات عسكرية فاعلة في شرق آسيا وإعطاء الأولوية للتحالفات مع الشركاء في أنحاء المنطقة والتصدي للنفوذ الصيني الخبيث في مناطق أخرى، بدءاً من إفريقيا وصولاً إلى أميركا اللاتينية وحتى الكليات والجامعات الأميركية.
قد يبدو هذا البرنامج مبالغاً فيه بالنسبة إلى شخص يعتبر نفسه معادياً للإمبريالية، لكن حتى لو افترضنا أن التزام هاولي بمعاداة الإمبريالية والانسحاب من الشرق الأوسط هو موقف محدود وانتهازي (فهو يدعم استمرار بيع الأسلحة إلى الإمارات العربية المتحدة، ومتابعة الالتزام الأميركي العسكري مع المملكة العربية السعودية، والانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة، وإطلاق تحركات عسكرية متواصلة ضد إيران)،لا مفر من التساؤل عن احتمال أن تُمهّد هذه المبادئ لمسار عملي يسمح بتجنب المواجهات العسكرية والحروب اللامتناهية في الشرق الأوسط.للأسف، يحمل طرح هاولي مجموعة من التناقضات ويقترح خياراً خاطئاً، فبرأي أكثر الأطراف اقتناعاً بضرورة اتخاذ هذه الوجهة، يبقى ابتعاد الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط لهذه الدرجة خياراً شائكاً في أفضل الأحوال. يتكلم هاولي في طرحه عن إفريقيا وأميركا اللاتينية وغرب المحيط الهادئ باعتبارها مناطق تتنافس فيها الولايات المتحدة مع الصين. قد تشكّل هذه المناطق كلها ساحات معارك فعلية بين بكين وواشنطن لفرض النفوذ، لكنّ الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة تستطيع إعطاء الأولوية لهذه المناطق بدل الشرق الأوسط تبقى خيالية بامتياز.لا يزال الشرق الأوسط مكاناً مؤثراً للسيطرة على أهم موارد الطاقة في العالم، وتشكّل الانقسامات السياسية الدائمة هناك فرصاً مناسبة لتسهيل تدخّل القوى العظمى، ولن تضطر الولايات المتحدة للانحياز إلى طرف دون سواه في الخلاف السعودي الإيراني بقدر ما فعلت في السنوات الأخيرة، ولن تحتاج طبعاً إلى إسقاط الأنظمة أو دعمها في أماكن أخرى من المنطقة. لكن لا مفر من أن تصبح الولايات المتحدة والصين جزءاً من الصراع القائم بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وإيران.لا داعي للاقتناع بأن المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين ستُكرر ديناميكيات الحرب الباردة على جميع المستويات أو معظمها، لكنّ أي نقاش يعتبر الصين مصدر تهديد مباشر على الولايات المتحدة سيُحدد بالضرورة أساس المنافسة العالمية المستمرة. لن يؤدي التركيز على الصين وحدها إلى إنهاء مظاهر الإمبريالية أو وضع حدّ للحروب اللامتناهية في الشرق الأوسط. إذا شملت المنافسة الأميركية الصينية ديناميكيات مشابهة للحرب الباردة، سيتحول أي صراع في العالم إلى سلاح بحد ذاته ويُعتبر فرصة لمحاربة النفوذ الصيني.المشكلة واضحة إذاً: ستترافق أي جهود لتصوير الصين كتهديد وجودي مؤكد على الولايات المتحدة مع مستوى معيّن من الصراع الذي يشكّل تبريراً للتدخل الأميركي في أي مكان حول العالم (كما حصل خلال الحرب الباردة)، ولإضعاف السياسة الخارجية المبنية على التدخّل في شؤون الدول الأخرى، لا يقضي الحل إذاً بالمبالغة في تصوير التهديد الصيني على أمل أن توقف الولايات المتحدة تدخّلها في أماكن أخرى، بل من الأفضل أن تعيد واشنطن النظر بطبيعة المخاطر التي تطرح تهديداً فعلياً على القيم الأميركية الأساسية وتُحدد المسائل التي تستطيع الولايات المتحدة التضحية بها للتصدي لتلك المخاطر.
مقالات
هل تبتعد الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط لمواجهة الصين؟
31-12-2020