رماد الفينيق الخامد إلى متى؟
كثر الحديث عن الدولة العميقة وكثر التنظير في ذلك ولم يغادر المنظرون لغيرهم من مُتَرَدَّم، ولكني عثرت من بين هذه التنظيرات على بقعة منسية لم تمسها يد التنظير مع أهميتها القصوى في إماطة اللثام عن معنى الدولة العميقة، وبالأخص في حالتنا الكويتية، حيث تساءلت: هل قوة الجماهير وسطوة أوهامها ترهب الدولة والبرلمان وقوى الإصلاح التي تخشى انتقام هذه الجموع؟ فقديما فضل بعض الفلاسفة اليونان نظام حكم الأليغارشية، أي حكم الأقلية المميزة على نظام الديمقراطية لأنها حكم الغوغاء، أو قل إنها تنبع في قراراتها من عقلية الجماهير بُداة الرأي غير الناضجين سياسيا، لذلك فضلوا حكم الأقلية المميزة لأن أحكامها تصدر عن علم وخبرة فهي أرشد في نظرهم. ليس هنا مقام نقاش هذه المسألة فالنظام الديمقراطي الحالي في إطار شروطه ومستلزماته من وجود الأحزاب وحرية الرأي ونُظُم الحكم الرئاسية والبرلمانية وفي إطار سيادة القانون وحكم المؤسسات قد امتص خير ما في نظام الفرد، ونظام الأقلية، ونظام الديمقراطية، المهم أن هناك توازنا في هذه النُظم بين جميع قوى المجتمع وفواعله لتحقيق الحرية وترشيدها، والتجاوب مع الحقوق والمطالب في فضاء من العقلانية المستقرة والمنفرشة على الجميع، فتنشط الجماهير تجارا وعمالا وأقلية مثقفة متعلمة (انتلجنسيا) كما تنشط الحكومات والبرلمانات في أجواء حرة تعبر عنها وسائل إعلام غير مقيدة.لندخل واقعنا الكويتي فنتساءل: ماذا لو لم تتدخل الحكومة في انتخابات رئاسة المجلس، والتزمت الحياد، وصار رئيس المجلس هو من تختاره الأغلبية في المجلس؟ ماذا لو شُكلت الحكومة وفق المزاج العام، ولم تتضمن عناصر مرفوضة أو مستفزة؟ ماذا لو شُكلت لجان المجلس وفق هوى ورغبات مجلس الأمة؟ ماذا لو أقدمت الحكومة- قبل شهرين من موعد انتخابات البرلمان في خطوة لم يسبق لها اتخاذها فأهابت بمنظمات المجتمع المدني وبالتكتلات السياسية وبالنُّشطاء من ذوي الرأي- برنامج عمل مقترح للحكومة القادمة، وتم اختيار أعضاء الحكومة على أساس هذا البرنامج، وشرعت بعد تشكيلها وفي أول جلسة للمجلس بتقديم برنامج العمل للمجلس لكي يضع ملاحظاته ويرفعها رسميا للحكومة التي ستنظر بعين الجدية لهذه الملاحظات، وتحلها المكان اللائق بها كحكومة بالمجلس وفق ما جاء بالمادة ٩٨ من الدستور وما جاء بالمذكرة التفسيرية؟
وشرعت الحكومة في تنفيذ المشاريع التي تضمنها برنامج العمل، وشرع مجلس الأمة في دراسة وإقرار أي قوانين وتعديلات في القوانين واللوائح يراها مناسبة، وتحقق مزيد من ترشيد العمل السياسي والاقتصادي، وأزاح العقبات التي تعترض سبيل النهوض بالمجتمع متحررا من ضغوط انتخابية لإقرار مطالب شعبوية، وانعتق من إرهاب الجماهير تجاراً وغير تجار ممن يضعون العِصِّى في عجلات تغيير الوضع الراهن، فلا ضرائب ولا تعديل للتركيبة السكانية، ولا تكويت للوظائف في القطاع الخاص، ولا حل للقضية الإسكانية بحلول جذرية وذكية، ولا استهداف لاقتلاع القطاع العام والشروع في الخصخصة لكل القطاعات الإنتاجية من كهرباء وماء وصحة وتعليم ومواصلات واتصالات ثابتة ومطار وموانئ، ولا نفث الروح في مشروع طريق الحرير واستثمار الجُزُر. المهم أن الحكومة والمجلس سيتحولان إلى ورشة عمل وهما في فضاءات متحررة من أي ضغوط ورِهاب جماهيري، وينشدان التغيير التقدمي ذا الحركة اللولبية الصاعدة إلى بلوغ التنمية والنمو في أمثل تجلياتها بعد استنفار واستفزاز كل الطاقات الكويتية الناعسة منذ عقود لكي تشق وتعجن من الواقع والإمكانات المتاحة ما يوازي ويجسد عبقريتها التي أكسبتها فرادة، فكانت فعلا عروس الخليج وفاتنة العرب.وما عدا ذلك ماذا سيكسب أعداء هذه الصورة، بل هذه اللوحة الفنية الأخّاذة من تجار وغير تجار، ومن حكام ومحكومين، إلا العيش في أحضان عجوز شمطاء اجتمع فيها قبح المنظر والطباع والفِعال، فبهذه الحرية سينهض الفينيق الكويتي من رماد الخمود والجمود.