نزاعات الحدود قنابل موقوتة
الخلافات الحدودية بين الدول قنابل موقوتة، متى تنفجر وإلى أين تنتهي، تبقى رهناً بالظروف المحيطة، ففي الأمس تابعنا المواجهات العسكرية بين السودان وإثيوبيا، وقبلها بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ، وإذا ما تفحصنا حالة الحدود بين العديد من دول الخليج والعالم العربي فسنجد أن هناك أفخاخاً ما زالت منصوبة وثغرات لم يتم ترسيمها أو الاتفاق عليها، بل بقيت مدار نزاع وتجاذب. حول الشأن السوداني وأحقيته بالأراضي المتنازع عليها في ولاية «الفشقة»، ينظر الخبراء الدوليون إليها كما ينظرون إلى حالة النزاع بين مصر والسودان على مثلث حلايب وشلاتين، فكلاهما يحتكمان إلى اتفاقية 1902 والموقعة بين بريطانيا وكل من إثيوبيا ومصر، قبل أن يحصل السودان على استقلاله، فتلك الأراضي وبطول خط الحدود بنحو 1600 كلم وبعمق (8-30) كلم وبمساحة 3 ملايين فدان أراض زراعية، وهي أراض تتبع للسودان، واحتلتها ميليشيات ومزارعون إثيوبيون استوطنوا تلك المنطقة منذ 25 سنة، وهم مدعومون ومحميون من القوات الفدرالية وبالتبعية من الميليشيات «الأمهرية». إرث تاريخي رسمه الاستعمار وبقي معلقاً، ينتظر إرادة الأطراف المشاركة لوضع حد لهذا النزاع، والواقع أن معظم ما تم تخطيطه على يد القوى المستعمرة، بكسر الميم في الخليج والجزيرة العربية أو في بلاد الشام كان عبارة عن «حقل ألغام».
هذا الوضع يقودنا إلى حالة العراق مع الكويت والادعاءات المتكررة منذ الوجود العثماني وقبل رحيله من هنا وتوزيع «التركة» على الإنكليز والفرنسيين والمآسي التي خلفها على العلاقات بين البلدين والشعبين، ووصلت إلى احتلال دولة ذات سيادة بأكملها لا جزء من الحدود فقط، إلى أن انتهت بقرار من مجلس الأمن الدولي، وأغلق الملف إلى الأبد بعد وضع العلامات الحدودية وترسيمها. معظم الدول العربية لديها مشاكل حدودية مع الجيران، وهي مشاكل قابلة لجعلها مصدراً للنزاعات متى وجدت الأطراف أنها تخدم توجهاتها. يكفي أن تخرج بسيارتك وتعبر حدود أي بلد خليجي أو عربي، حتى تقع عيناك على التداخلات و«الشربكة» التي تدوخ الرأس، تدفعك لطرح أسئلة من نوع: لماذا، وكيف، وهي أسئلة لن تجد لها الجواب الشافي والكافي إلا بالرجوع إلى الأصل. أربع دول عربية في المغرب العربي دخلت في نزاعات حدودية بعد استقلالها ووصل الأمر إلى نزاع مسلح بين المغرب والجزائر عام 1963، وهذا الجزء من العالم العربي ما زال يعاني من قضية «الصحراء الغربية» التي خلقت استقطابات ومحاور، واستنزفت الدول المعنية، دون أن تتوصل إلى حلول مرضية ونهائية. الفكرة الأخرى والإيجابية للنزاعات الحدودية يتم استبعادها لدى أصحاب القرار والشأن والقائمة على قاعدة أن الخلافات يمكن أن تكون مصدراً للتقارب بدلاً من الحرب، وذلك بتحويلها إلى «مناطق اقتصاد حرة» تقام على الأراضي المتنازع عليها، وتكون مصدراً اقتصادياً يوحد البلدين ويمثل مصدر تعايش مشترك يستفيد منه شعبا الدولتين، بإقامة مصالح ومشروعات معفاة من الضرائب، وتدار بشراكة تستوعب عمالة المهمشين والعاطلين عن العمل والساكنين في الأطراف والمناطق الحدودية غالباً. طبعاً نتحدث هنا عن الأراضي الواقعة على الحدود المشتركة، وإن بقيت بعض النزاعات تتصل بمناطق منفصلة أو جزر وبحار وخلافه، ففي كتاب «الجغرافيا السياسية» لفريدريك راتزل وهو من أوائل الجغرافيين المحدثين الذين تناولوا مشكلة تعريف الحدود، يقول: في مناطق الحدود يقع جزء كبير من ثقل التوازن السياسي، وفي مكان آخر يؤكد أن نطاق الحدود هو المكان الذي يشير إلى ضعف أو تقلص الدول، ففي الدول القوية يظهر ارتباط وثيق بين نطاق الحدود وقلب الدولة، وعلى الدول أن تسعى للحصول على أقصر خطوط للحدود لأنها أقواها وأفضلها. قصة الصراعات على الحدود جسدها فيلم كوميدي أخرجه ومثله دريد لحام وكتبه محمد الماغوط سنة 1984 وفيه يسخر من «الوحدة العربية» المزعومة ومن خلال سائق، سافر بين بلدين، غربستان وشرقستان، ضاعت هويته على الحدود، فاضطر أن ينصب خيمة في نصف المسافة بين البلدين، يعيش فيها، والفيلم يعكس مرارة الوضع بقدر ما يعطي الانطباع إلى أي مدى يمكن أن تكون مسألة الحدود معقدة.