الفلسطينيون... وألمانيا النازية
كان مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، فيما يبدو من كلام معاصريه ومعايشيه في العديد من الدول والمراحل التي تحدثنا عنها، شديد الاعتداد بنفسه، لدرجة الغرور والوقوع ضحية لأوهام الزعامة والقدرة على قيادة العالم العربي وتحريك شعوبه... إلخ.وكانت تهيمن عليه في الوقت نفسه مشاعر المرارة من نتائج ما جرى بفلسطين بسبب الإنكليز واليهود، مما جعل هذه المشاعر من ألد أعدائه، ومصدر هجماته ومخططاته المضادة لاحقا في كل الأمور، وقد رافق ذلك للأسف وربما نتج عنه، ميله للتدخل في كل قضية سياسية عربية وحتى دولية يراها ذات صلة دون ترتيب أولويات ودون اكتراث بالنتائج، ولهذا أثارت سيرته على الدوام ولا تزال الكثير من الجدل بين منتقد ومدافع، هذا بالطبع إلى جانب مزاجيته وعناده وغير ذلك.وحول موقف المفتي والفلسطينيين عموما من ألمانيا الهتلرية يقول المؤرخ د.علي محافظة في دراسته التي نعرضها عن العلاقات الفلسطينية الألمانية، "إن المرحلة الأولى من العلاقات بين الحركة الوطنية العربية في فلسطين و"الرايخ الثالث"، أي نظام هتلر، مرت بمراحل ثلاث"، ويضيف:
"تميزت المرحلة الأولى بإعجاب الحركة الوطنية الفلسطينية كغيرها من الحركات الوطنية في المشرق العربي بالنظام النازي وبتعاطفها مع ألمانيا، وسبب ذاك الإعجاب والتعاطف الإنجازات الكبرى والسريعة التي حققتها ألمانيا في العهد الجديد على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبخاصة التخلص من القيود التي فرضتها عليها معاهدة فرساي عام 1919، بالإضافة الى الكراهية الشديدة التي كان يكنها النازيون لليهود، وتصميمهم على تطهير ألمانيا منهم، ورافق ذلك الإعجاب والتعاطف جهل تام بحقيقة السياسة الألمانية نحو اليهود". (ص268).ومن أهم ملاحظات المؤرخ هنا قوله إن جهل عرب فلسطين بحقائق السياسة الألمانية وأولويات النظام النازي، رافقه "جهل مماثل من الجانب الألماني بحقائق القضية الفلسطينية، سببه عدم اكتراث ألمانيا الجديدة، أي نظام هتلر النازي، لما كان يجري في فلسطين، إذ كان اهتمامها منصبا على مخططاتها التوسعية في أوروبا الوسطى والشرقية، وعلى السعي لكسب ود بريطانيا وسكوتها عن هذه المخططات".من جانب آخر كان شاغل ألمانيا النازية الأول هو التخلص من الأقلية اليهود في ألمانيا، ورغم مظاهر الود والتعاطف التي أبداها عرب فلسطين وقادتهم نحو ألمانيا، يقول المؤرخ، "امتنعت ألمانيا عن تقديم أي عون مادي أو معنوي للثورة العربية في فلسطين بين عامي 1936 و1939، رغم المحاولات العربية المتكررة للحصول على هذا العون". ويفسر د.محافظة سياسة التجاهل الألمانية للمطالب الفلسطينية بأنها كانت قائمة على رغبة ألمانيا في كسب بريطانيا، ويقول "كان ذلك ممالاة منها لبريطانيا واعتقادا منها- أي ألمانيا- بعدم جدوى التعاون مع العرب عامة".وامتدت المرحلة الثانية عدة سنوات في بداية الحرب، أي 1939-1941 وفيها انتقلت قيادة القضية الفلسطينية إلى العراق، وبدأت خلالها سياسة جديدة، وبخاصة بعد تدفق الهجرة اليهودية، حيث: "تراءى للقادة العرب الفلسطينيين أن في العالم معسكرين معسكر الأعداء من مستعمرين وصهاينة من جهة، ومعسكر المحور من جهة أخرى، ولما لم يكن لألمانيا وجود استعماري في أي بلد عربي، لذلك كان من الطبيعي أن تكون عواطف العرب شعوبا ومسؤولين مع ألمانيا انطلاقا من القول المأثور: عدو عدوك صديقك". (269).وتبنى بقية السياسيين العرب في العراق الرؤية المتعجلة نفسها، ووقعت القيادة الفلسطينية في خطأ أفدح عندما ربطت القضية الفلسطينية بالقضية العربية العامة، بما فيها من تفاصيل وصراعات ثبت فيما بعد أنها تضر بالقضية الفلسطينية على امتداد سنوات طويلة وربما لا تزال.يقول د.محافظة: "ولعل هذه القناعات السياسية هي التي جعلت المفتي يتصرف في العراق وكأن البلد بلده والأهل أهله والقضية قضيته، وهي التي جعلت فريقا من السياسيين العراقيين يرحبون به بينهم، ويستشيرونه في كل صغيرة وكبيرة في شؤون العراق الداخلية، ويعتمدونه أميناً على أسرارهم، ولا يتورعون عن التضحية بمصالح العراق من أجل الصالح القومي العربي العام، ولذلك لم يترددوا في الموافقة على الاتصال بألمانيا وإيطاليا عن طريقه لطلب العون منهما، وأن يوكلوا إليه مهمة التفاوض السري معهما". (ص270). وكما ذكرنا في مقال سابق لم يتوقف المفتي الحسيني في العراق عند أي حواجز سياسية، ولم يدرس بعناية أية أولويات، ونظر إلى أولويات وقدرات العراق وسياساته، من منطلقات فلسطينية وعربية، قاد المفتي في النهاية، كما رأينا، إلى دعم حركة الكيلاني الانقلابية والفرار بالقضية الفلسطينية والعربية إلى دول المحور ألمانيا النازية وإيطاليا التي كانت تتحرك بالطبع ضمن مدار آخر وفلسفة لا علاقة لها بأولويات الفلسطينيين، منها مثلا رؤية النازية واليهود والمحرقة وغيرها، لا تزال آثارها ونتائجها ملموسة في الثقافة والصحافة الفلسطينية والعربية، إذ لم تكن نظرة ألمانيا النازية إلى العالم العربي مثل نظرة المفتي وبقية الساسة العرب في برلين أو المشرق.يقول د. محافظة: " اتصفت المرحلة الثالثة في هذه العلاقة 1941-1945 باستغلال ألمانيا لقادة الحركة العربية المتعاونين معها وبخاصة مفتي فلسطين الذي بذل جهودا كبيرة لخدمة الأهداف السياسية والعسكرية الألمانية من خلال اتصالاته بقادة الحركات الوطنية في البلاد العربية والإسلامية، وعلى الرغم من هذه الجهود اقتصرت وعود ألمانيا للمفتي وغيره من القادة العرب على استقلال ووحدة أقطار الهلال الخصيب، مع تجنب الإشارة بصراحة إلى سورية ولبنان، والتأكيد على تحرير واستقلال الأقطار العربية الواقعة تحت الهيمنة البريطانية".كانت علاقة النازيين بالعرب والفلسطينيين خليطا من احتقار النازية للساميين والعرب ومن احتمال الاستفادة منهم ضد دول الحلفاء، أما هتلر نفسه فكان كذلك معجباً بشعر المفتي الأشقر وعيونه الزرقاء الآرية.يقول د.محافظة: "لقد كانت الفلسفة النازية وراء العلاقات العربية- الألمانية بعامة والعلاقات الألمانية الفلسطينية بخاصة، فقد اعتقد الألمان بعجز العرب عن بناء دولة حديثة، كما شكوا في ولائهم السياسي لوزارة الخارجية الألمانية، وفي المذكرات والمؤلفات التي نشرها قادة ألمانيا النازية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان تصور النازيين لاقتسام العالم يفترض وقوع العرب تحت النفوذ الأوروبي الإيطالي والفرنسي، ولا شك أن مقتضيات الحرب العالمية الثانية هي التي أكرهت ألمانيا على انتهاج سياسة مخالفة لفلسفتها السياسية النازية، وأما المعاملة الحسنة التي لقيها الحاج أمين فقد كانت استثناء، وربما لاعتقاد هتلر بأصوله الآرية على حد تعبيره فقد صرح زعيم الرايخ الثالث بأن شعر المفتي الأشقر وعينيه الزرقاوين يعطيان الانطباع بأنه شخص كان في أسلافه أكثر من آري وأن من المحتمل أن هذه الآرية قد امتزجت لديه بأحسن ما ورثه عن الرومان". (ص270).تسببت حروب هتلر ومغامراته النازية التوسعية في مقتل ملايين العسكريين على الجبهات والمدنيين في المدن والقرى وفي وقوع دمار واسع لم يشهد له مثيل، وبخاصة في روسيا وبولندا، قبل أن تدور الدوائر على المدن الألمانية وقاطنيها، وبخاصة عاصمتها برلين، التي كانت إحدى أجمل مدن أوروبا ومركز الحضارة والعلم ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، ومن مدن ألمانيا التي نالها دمار أكثر من نصيبها مدينة دريسدن، وهي التي قُصفت بشكل دائري أو "لولبي"، يقال بعد أن تأكد أنها ستكون في القسم التابع لروسيا بعد تقسيم ألمانيا فلم يُبق فيها طيران الحلفاء حجراً على حجر.يقول المستشار عبدالله العقيل أحد أبرز القيادات في جماعة الإخوان بالكويت في كتابه المذكور في مقال سابق عمن عرفهم من الإسلاميين، ومنهم مفتي فلسطين الحسيني: "في أواخر سنة 1943 اشتدت غارات طائرات الحلفاء على ألمانيا، فكانت بعض الغارات تهاجم برلين بألف طائرة أو أكثر، وقد أصيبت الدار التي كان سماحة المفتي يسكنها ورفاقه عدة مرات، فخرجوا من برلين الى مناطق متعددة، وقد استُشهد رفيقه الدكتور مصطفى الوكيل، وهو مصري ومن المقربين إليه وأكبر أعوانه، ويعمل في المعهد الإسلامي ببرلين، الذي استشهد فيه إثر غارة جوية". (من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة القاهرة 2006، ص 129).ماذا عن مصير القضية العربية وسط خرائب برلين؟ يقول د.علي محافظة: "ومنذ تراجع القوات الألمانية على الجبهة السوفياتية في شمال إفريقيا أخذت القضية العربية دورا ثانويا في حسابات ألمانيا الدولية، ومنذ منتصف عام 1943 أصبح همّ ألمانيا الأول الدفاع عن مواقعها في الجبهات الأوروبية، وغدا تحرير البلاد العربية بعيد المنال، وشعر الزعماء العرب المتعاونون مع الألمان بذلك وأخذوا يوجهون نقدهم علنا للسياسة الألمانية، ولم يعد للعمل الدعائي الذي كان يقوم به المكتب العربي في برلين والذي كان تحت إشراف المفتي، أي أهمية خلال عام 1944".