امرأة علمتني
![عبدالله الفلاح](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1605719323015202200/1605720315000/1280x960.jpg)
في العمل كانت تعرف تماماً ما هي الرؤية التي يمكن من خلالها بناء الوعي، وبناء جيل، وبناء وطن لا ينام فيه التراب، ولا الورد، ولا الأمل... لم تنادِ أحداً باسمه، فقد كانت (أخوي) تسبق كل شيء، حتى في غضبها، الذي أدركت بعد ذلك أنه لم يكن إلا من أجل الآخر، من أجل ألا يسقط أحد في الأخطاء، لأن الكتابة عمل يقظة وانتباه واقتناص... وأن الكلمات تولد من الوعي الحي، لا بين الأصابع الميتة! قالت عليك أن تشبه الجمر عندما تكتب، لا أن تشبه الدخان، وأن ترى من جهة لا يمكن لأحد أن يرى من خلالها، لتتقدم، وألا تلعب في الظل! تدفعك للمغامرة، أليس العمل الصحافي مغامرة؟ أن تدخل في مكان لا تحبه، وتتغير رؤيتك له، تتجاوزه بنجاح، ثم تغادره، لتكون ملماً بكل التفاصيل.. لتنمو شجرة المعرفة في داخلك. عندما يمر بها المقال، تفتح باب الحديث للمناقشة، ثم تصغي لها، مثل تلميذ يريد أن يتعلم، من معلمة كنت أراها- وما زلت- حالة استثنائية في الثقافة والمعرفة، تبدأ بالأمس، بكويت فهد العسكر التي تم بناؤها بدقات القلوب لا بالضوء، وبلاد تأخذ كلماتها من لغة البنفسج وصوت اليامال وحداء الصحراء... ليمتد الحديث الذي يبدأ أحياناً بجارة القمر، الصوت العالق في دقات قلوبنا، عن كيف يمكن لصوت فيروز أن يرتب المكان ويرمم الروح المتصدعة، ثم مروراً بالموسيقى والشعر والرواية والمسرح والسينما والأدب، ولا ينتهي الحديث عن الكتب التي كانت تقول: إن الكتب هي المرايا التي يمكن من خلالها اكتشاف الطرق الأجمل في داخلك، ليزداد تعلقي بالقراءة والكتب، كانت الكتب هي الأحجار التي أبني فيها ذاتي. تتحدث عن الأمس، كما لو أنها تتحدث عن الغد، الغد الذي يجب أن يكون، وعن الكتابة وأن على الكاتب أن يدخل المتاهات، وألا يسقط في غياهب الصمت، بل عليه أن يضيء القلق، وأن يبحث عن الطريق للقراء، الطريق المفقود بين الخطوة والأخرى أو بين الكلمة والأخرى، وأن يضع "الكلمات" على الجرح... بل يجب أيضاً أن يكون وعي الكاتب أشبه بغيمة.. ولنقل حقيبة مطر! لم تكن مثل الآخرين، لأني الآن لا أعلم أي كلمات يمكن أن تختصر كل القول وكل السنوات وكل الشكر. لامرأة علمتني بعد كل هذه السنوات، علي القول: شكراً أيتها الأخت والمعلمة بيبي خالد يوسف المرزوق، رغم أن الشكر لا يكفي.