شهد الأسبوع الحالي حدثين مهمين يتعلقان بكيفية معالجة الدول خلافاتها، ضمن إطار المنظمات، على الصعيدين العالمي والإقليمي.فمع بداية العام الحالي خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فيما يعرف بالـ«بريكست»، بعد مفاوضات مضنية وشاقة ومعقدة أفضت إلى اتفاق تجاري بقيمة 900 مليار دولار، بعد 4 سنوات من تصويت البريطانيين على الانفصال عن الاتحاد، وهي الفترة نفسها التي بدأ فيها الخلاف الخليجي تقريباً، والتي تخللتها أجواء تأزيم في المنطقة ومقاطعة اقتصادية وحملات إعلامية، وكانت خسائر المنطقة من هذه الأزمة، الخالية من أي ضرورة، ما يتجاوز مليارات الدولارات إلى خسائر في العلاقات والثقة والترابط بين الدول والشعوب، بل وحتى في إمكانية تطوير مجلس التعاون الخليجي في المستقبل إذا ظلت آليات عمل المنظمة الخليجية ودولها وفق قواعدها السابقة، بما يسمح بتكرار الخلافات التي يصعب معها معرفة أسبابها أو طيها.
اتفاق بعد تشدد
فعلى صعيد البريكست، الذي نتج في غالبه عن اتجاهات يمينية متشددة رفضت التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي، سارت المفاوضات في اتجاه تحقيق المصالح المشتركة لبريطانيا والاتحاد الأوروبي في قضايا التجارة والضرائب والعمل وصيد السمك والمنافسة العادلة، ومدى انطباق أجزاء من الاتفاقية على أيرلندا، وأثر ذلك على الاتفاقية، وصولاً إلى تفاصيل دقيقة عما يعرف بـ «التنقل الحر»، بما يشمل الشهادة الصحية للكلاب والقطط التي تنقل مع أصحابها إلى دول الاتحاد الأوروبي، بمعنى أن اتفاق البريكست شمل في مفاوضاته كل التفاصيل الدقيقة في الوقت الذي كان من اللافت إصرار كل من لندن وبروكسل -مقر الاتحاد الأوروبي- على التوصل إلى اتفاق قبل البريكست في كل مرة تتعثر بها المفاوضات.خلافات خليجية غامضة
أما على صعيد الأزمة الخليجية، فكانت الأوضاع معاكسة أو نقيضة لأوضاع البريكست، في انعكاس لصورة كيفية تعامل الدول مع أزماتها وخلافاتها، فلم تكن هناك خلافات واضحة ولا مفاوضات مباشرة، إنما انعكست الأزمة سلبياً على المنطقة على أكثر من صعيد، فالاقتصاد في الخلاف الخليجي لم يكن القضية، بل الضحية، فباتت دول الخليج تستدين مليارات الدولارات مع انخفاض أسعار النفط لتمول الإنفاق العسكري، فوقّعت كل دولة خليجية على الأقل صفقة شراء أسلحة كبرى أغلبها مع الولايات المتحدة، بلغ إجماليها خلال سنوات الأزمة الخليجية أكثر من 55 مليار دولار، فضلاً عن صرف ملايين الدولارات على ما يعرف بـ «شركات الاستشارات والعلاقات العامة العالمية»، لا لتسويق فرص استثمار أو مشاريع تنمية مثلاً في بلدان الخليج، بل لإذكاء الخلاف وتشويه صورة الخصوم دولياً. والأهم من ذلك كله أن دول الخليج العربي تعرضت خلال فترة الأزمة الخليجية لابتزاز غير مسبوق ووقح من الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب مسّ سمعتها وأمنها وثرواتها.أضرار معلنة ومخفية
كما أفضت الأزمة الخليجية، التي تزامنت مع انخفاض أسعار النفط والطاقة وتداعيات فيروس كورونا، إلى تسييل أصول سيادية مليارية، لاسيما في قطر، لتمويل مصروفات غير اعتيادية تتعلق بالمقاطعة، وما ترتب عليها من وقف لعمليات التجارة، كما ترتب على الأزمة تراجع في بيئة الاستثمار الخليجية، فنجد سوق العقارات بإمارة دبي، عاصمة التداولات العقارية في الخليج، شهد تراجعاً لافتاً حتى قبل أزمة كورونا، ناهز 50 في المئة من مستويات ما قبل أزمة الخليج، وما يقاس على دبي ينطبق أيضاً على قطر، التي تراجعت التعاملات العقارية فيها بنسبة 70 في المئة في العام الأول من الأزمة، كما تأثرت التجارة البينية في جميع دول الخليج. وفي الصورة العامة، باتت مشاريع وحدوية مثل الاتحاد الجمركي أو السوق الخليجية المشتركة أو العملة الموحدة والبنك المركزي الخليجي، أو حتى مشاريع بسيطة كتسهيل وتوحيد قواعد الإنتاج والتصدير والاستيراد- في دائرة النسيان.يذكر أنه عند ذكر الأضرار الاقتصادية «المعلنة» لدول الخليج من الأزمة يجب أن نعلم أن معظم هذه الدول تجتهد في الأحوال الطبيعية، في عملية إخفاء المعلومات السلبية الداخلية عن مختلف الأنشطة فيها، لاسيما الاقتصادية، ويزداد هذا الجهد في أحوال النزاع والتوتر والخلافات البينية!إمكانيات الاقتصاد الخليجي
ومع أن دول مجلس التعاون الخليجي تستحوذ على 23 في المئة من إنتاج النفط العالمي، و35 في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي من النفط الخام، وتملك صناديق استثمار سيادية تناهز قيمتها تريليوني دولار، ولديها ناتج محلي إجمالي سنوي يفوق 1.6 تريليون دولار فإن الاقتصاد لم يكن أولوية خلال السنوات الماضية، لا في أسباب الأزمة ولا حتى عوامل حلها!تجفيف منابع الأزمات
من المهم اليوم، مع نهاية الأزمة الخليجية بفتح الحدود والأجواء بين قطر والسعودية، وقرب عودة العلاقات الدبلوماسية بين دول الأزمة، أن نستوعب كيف يدير العالم خلافاته وفقاً لمصالح الدول والشعوب، لا وفقاً لخلافات غير معلنة، وهذا لن يتحقق إلا بزوال أسباب الخلافات وبيئتها المحفزة، التي تمنع تكرار الخلاف، أي تجفيف منابع الأزمات في المنطقة، لاسيما بين دول مجلس التعاون الخليجي، مما يستوجب أولاً إصلاح آليات الإدارة العامة في جميع دول الخليج، بما يسمح بالتمثيل الشعبي في مؤسسات الحكم والإدارة، وثانياً وجود مشروع اقتصادي تنموي في المنطقة يشبك المصالح المتبادلة، مما يجعل حل أي خلاف حتمياً، كي لا تتعرض المصالح للخطر... عندها فقط تكون خلافات غير مؤذية أو خطيرة على دول الخليج وشعوبه وثرواته.