كانت الانتخابات الأميركية الأخيرة الأكثر اضطراباً في التاريخ الأميركي المعاصر، حيث يشعر جزء كبير من الأميركيين بالقلق من تضرر الديمقراطية بطريقة لا يمكن إصلاحها وتعرّض أفضل علاقات الولايات المتحدة حول العالم لمخاطر كبرى.هذه المخاوف منطقية، لكن أسباباً وجيهة أخرى تشير إلى حصول العكس: بدأ البلد يتجاوز مرحلة مؤلمة من تاريخه، ولن يصدّق أي شخص منطقي أصلاً أن الحياة يجب أن تكون سهلة طوال الوقت، ففي حين يحاول دونالد ترامب الانقلاب على هزيمته بطريقة عنيفة، يتصرف الرئيس المُنتخب جو بايدن بأسلوب لافت، فهو يبدو متزناً وشجاعاً ومطمئناً ويعبّر عن احترامه للمؤسسات والثقافة السياسية في الولايات المتحدة ويثبت قوة تحمّله، إنه مؤشر إيجابي بالنسبة إلى واشنطن وأصدقائها وحلفائها.
ترامب لم يدمّر الديمقراطية الأميركية، ولم ينسف مصداقية الولايات المتحدة باعتبارها دولة مبنية على حُكم القانون، ولم يضع البلد على طريق الحُكم الاستبدادي والأحادي، كذلك، لم تتضرر علاقات واشنطن الدولية إلى الأبد، بل تستطيع السياسات الخارجية أن تتغيّر بين عهد وآخر.قد تكون إعادة التأكيد على سياسات ما بعد ترامب ركيزة لسياسة خارجية متماسكة تحظى في بعض أجزائها بدعم الحزبَين الجمهوري والديمقراطي، لكن ما الوضع الجيوسياسي الذي ينتظر الرئيس بايدن؟لنفكر أولاً بحلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها: على عكس التوقعات التي تفترض أن واشنطن خسرت حلفاءها في الناتو وشركاءها في الاتحاد الأوروبي، بدأت تلك الدول تنظّم نفسها منذ الآن لدعم أنماط سياسية وسلوكيات كانت تستخف بها طوال عقود، حيث يتبادل الأوروبيون التحذيرات مجدداً حول ضرورة التماسك واتخاذ مواقف مشتركة كي تتعامل معهم واشنطن بجدّية. لم يعد الأوروبيون يستطيعون التشكيك بموقف الولايات المتحدة تجاههم ولا تسمح لهم مكانتهم بالتذمر من المضايقات الأميركية، وعادت الإجراءات الدبلوماسية العابرة للأطلسي إلى الواجهة مجدداً.في آسيا، تشعر حكومات اليابان وكوريا الجنوبية، وبدرجة أقل وضوحاً الفلبين وفيتنام ودول جنوب آسيا، بالاطمئنان لأن الولايات المتحدة لا تزال قوة دائمة في منطقة المحيط الهادئ والأطلسي، وستوقف واشنطن تهديداتها الضمنية بالتخلي عن هذه الدول إذا كانت حساباتها ومصالحها المبنية على شعار "أميركا أولاً" تستدعي ذلك.من حق الصين أن تشعر بالقلق من احتمال أن تجد نفسها محاصرة جيوسياسياً، حتى لو كانت القدرات الاقتصادية والمالية في بر الصين الرئيسي سلاحاً قوياً ومتنامياً في العلاقات الآسيوية الدولية وسواها.بكين مسرورة برحيل ترامب، لكنها تدرك أن الأميركيين وحلفاءهم وأصدقاءهم وأنصاف أعدائهم ما عادوا يعتبرون التصدي للنفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني مستحيلاً ولم يعد التفوق الصيني بنظرهم حتمياً، قد يكون هذا الانعكاس النفسي للعقليات تجاه الصين أهم إرث جيوسياسي تركه ترامب وراءه.تدرك بكين أيضاً أنها ستواجه موقفاً أكثر صرامة من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن، ويتكرر هذا الموقف في جميع أنحاء العالم: تدهورت سمعة الصين عالمياً مقارنةً بما كانت عليه منذ بضع سنوات بسبب ما فعلته بكين أو امتنعت عن فعله في ملف كورونا ولأن استياء ترامب من سياسة الصين زاد شجاعة الجهات الأخرى.على صعيد آخر، لا تزال تفاصيل سياسة بايدن تجاه روسيا مسألة مفتوحة للنقاش، لكن من المتوقع أن يكون بايدن أكثر تشدداً من ترامب في تعامله مع موسكو، ويتوقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا التوجّه ويستطيع تحمّل عواقبه، لكنه سيضطر أيضاً للتعامل مع الحكومات الأوروبية التي تبدو أقل استعداداً لعقد صفقات مستقلة مع موسكو، حيث يدرك بوتين أن مستقبل روسيا لا يكمن في الصين بل في الغرب، حتى لو بقيت العلاقات الروسية مع أوروبا القارية شائكة. في الشرق الأوسط، أدى دعم ترامب القوي لإسرائيل إلى تسريع التطورات الجيوسياسية الإيجابية ولو على حساب الآمال الفلسطينية غير الواقعية، وتشكّل "اتفاقيات أبراهام" بين إسرائيل من جهة وبعض دول الخليج من جهة أخرى مؤشرات ملموسة على انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وقد يتحول الاصطفاف العربي الإسرائيلي إلى تحالف حقيقي ضد إيران العدائية.لا شك أن إدارة بايدن ستعود إلى خطاب "حل الدولتين" لكن لا يصدّق الكثيرون، بمن في ذلك بايدن والفلسطينيون أنفسهم، أن هذا الحل لا يزال وارداً، ومع ذلك سيكون هذا النوع من المواقف الظاهرية ضرورياً تزامناً مع تبلور العمليات الكامنة بغض النظر عن المدة التي تحتاج إليها هذه المقاربة، ويمكن التناقش أيضاً حول احتمال نشوء مؤسسة فلسطينية ذاتية الحكم مستقبلاً.مع اقتراب موعد تنصيب بايدن رسمياً تكثر المشاكل الصغيرة والكبيرة، لكنّ أخطر المسائل لا تتعلق بالحروب المحتملة بين القوى العظمى، بل تُعتبر السيطرة على وباء "كوفيد19" المشكلة المحلية والدولية الأكثر إلحاحاً، بالإضافة إلى توسيع تدابير التعافي الاقتصادي، وسينضم بايدن فوراً إلى اتفاق باريس وسترحّب حكومات عدة بعودة زمن القيادة الأميركية، وفي المقابل يَقِلّ عدد الحكومات التي لا تحبذ هذه الخطوة.في مجال السياسة الخارجية، أصبحت العودة إلى الدبلوماسية الأميركية المعتمدة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما قبل عهد ترامب حتمية، لكن من المتوقع أن تترافق هذه المقاربة مع بعض التحديثات، فقد أصبحت السياسة المتشددة تجاه الصين مقاربة مدعومة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي اليوم، مما يعني أنها جزء من النتائج الحتمية، ومن المنتظر أيضاً أن تشارك الولايات المتحدة مجدداً في المبادرات والمفاوضات العالمية ومتعددة الجوانب، وسيكون التعامل مع التغير المناخي على رأس الأولويات، وبما أن جميع الدول معنية بهذا الملف، لا سيما الدول الكبرى، فستصبح هذه المسألة الركيزة الأساسية للعمل مع الصين وجزءاً من تدابير التعاون التي تسمح بالتصدي للصدامات المرتبطة بالمصالح الوطنية.تتعلق المسألة الأساسية طبعاً باختلاف بايدن عن الرئيس المنتهية ولايته وبرحيل ترامب أخيراً، فقد كان ترامب يكرر دوماً أن الانتخابات لها عواقب حتمية وهذا ما يحصل اليوم فعلاً.
دوليات
عودة للسياسة الخارجية الأميركية المعتادة
08-01-2021