كشفت تحقيقات صحافية وحكومية في ألمانيا شبكات منظّمة من مؤيدي اليمين المتطرف في صفوف الأجهزة الأمنية المحلية. وفي الشهر الماضي، استجوب ضباط في استخبارات الجيش ثمانية أفراد، منهم جنود ألمان يُشتَبه بتورطهم في حركة معادية للحكومة.

لكن لم تعترف الولايات المتحدة، من جهتها، بتسلل اليمين المتطرف إلى الجيش والشرطة. كان المسؤول السابق في مكتب التحقيقات الفدرالي، مايكل جيرمان، محقاً حين اعتبر رد الحكومة الأميركية "غير كافٍ على نحو صادم" في تقرير أصدره مركز "برينان" حول هذا الموضوع في شهر أغسطس الماضي. قبل 15 سنة تقريباً، حذّر بيان صادر عن مكتب التحقيقات الفدرالي من تنامي "تهديدات القوميين البيض"، لأنهم قد يتسللون عمداً إلى الشرطة ويعيقون مسار التحقيقات ويحاولون تجنيد ضباط آخرين.

Ad

لكن لم يهتم أحد بذلك التحذير. وفق "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، توسّعت أعمال العنف اليمينية بوتيرة متسارعة في الولايات المتحدة في آخر 6 سنوات وشكّلت أكبر جزء من المؤامرات والاعتداءات الإرهابية في البلاد. أمام هذا الوضع، يجب أن يأخذ المسؤولون الأميركيون هذه المخاطر التي تُهدد الأمن القومي على محمل الجدّ وبالشكل الذي فعله نظراؤهم الألمان، وإلا سيجازفون بتدمير الواجبات الدستورية التي أقسم الجيش ووكالات إنفاذ القانون على أدائها.

لا مبالاة عامة في الولايات المتحدة

اتّضح حجم المشكلة في الولايات المتحدة خلال الصيف الماضي. أدى مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في شهر مايو إلى نشوء حركة "حياة السود مهمة" التي عادت وأنتجت رداً قوياً من المعسكر المتشدد، بما في ذلك ناشطون من اليمين المتطرف لديهم خلفية عسكرية.

اعتُقِل عنصر من الجيش الاحتياطي واثنان من المحاربين القدامى في لاس فيغاس بتهمة التخطيط لأعمال عنف ضد الاحتجاج الذي نظّمته حركة "حياة السود مهمة" هناك. في غضون ذلك، أقدم رقيب في القوات الجوية له روابط مع حركة "بوغالو" (مجموعة تتألف من ناشطين مؤيدين لحمل الأسلحة ومقتنعين بتفوّق أصحاب البشرة البيضاء وتهدف إلى إطلاق حرب أهلية) على إطلاق النار وشن اعتداءات مكثفة طوال ثمانية أيام، مما أسفر عن مقتل حارس أمن فدرالي. صُوّر ضباط عبر الفيديو أو ماسحات الشرطة خلال احتجاجات حركة "حياة السود مهمة" وهم يتصرفون بطريقة منحازة للميليشيات البيضاء، ويأخذون حقهم بيدهم ويؤيدون الاحتجاجات المسلّحة المضادة.

لكن المشاكل القائمة لا تقتصر على تصرفات فردية سيئة في مناطق ووحدات محلية. في عام 2019، كشفت منظمة "بروبابليكا" أن 10 آلاف عنصر تقريباً من دورية الحدود الأميركية، بما في ذلك مدير الوكالة، كانوا أعضاءً في مجموعة على "فيسبوك" تتقاسم منشورات عنصرية ومعادية للمهاجرين وكارهة للنساء.

وذكر تقرير آخر أن مئات ضباط الشرطة الناشطين والمتقاعدين يشاركون في مجموعات عنصرية ومتطرفة على "فيسبوك"، وهذا ما دفع أكثر من 50 مركزاً محلياً للشرطة إلى بدء التحقيق بالموضوع. نتيجةً لذلك، طُرِد ضابط بسبب انتهاكه لسياسات إدارة الشرطة في قضية واحدة على الأقل.

هذه النتائج تُسلّط الضوء على مظاهر العنصرية داخل وكالات إنفاذ القانون فيما بدأ الرأي العام يدرك حجم العنصرية في تعامل الشرطة مع الأميركيين السود أو أصحاب البشرة الداكنة. تثبت ممارسات الشرطة وجود بيئة حاضنة لهذا النوع من السلوكيات المضطربة. لكن يصعب تقييم عمق المشكلة حتى الآن، لأن الحكومة الأميركية رفضت الالتزام بإجراء تحقيقات شاملة من النوع الحاصل راهناً على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.

كذلك، يؤدي غياب البيانات الكافية لتقييم نطاق النشاطات اليمينية المتطرفة في وكالات إنفاذ القانون والقوات المسلحة إلى ترسيخ الفكرة القائلة إن المشكلة محصورة بعدد ضئيل من العناصر السيئة، وبالتالي يقتصر الحل على اقتلاعها بكل بساطة. لكنّ هذه الفكرة تسيء إلى الأعضاء الملتزمين بالقانون في الشرطة والجيش، وتؤذي أيضاً المواطنين الطامحين إلى حصول إصلاح حقيقي.

من حق الرأي العام الأميركي أن يشعر بالقلق من الوضع القائم، لأن بعض المسؤولين في وكالات إنفاذ القانون منتسب إلى جماعات تُروّج للكراهية، مثل منظمة "كو كلوكس كلان" في فلوريدا و"عصبة الجنوب" ذات التوجّه الكونفدرالي الجديد في ولاية ألاباما.

وتزعم الجماعة الميليشياوية الخاصة "حرّاس القَسَم" التي أسست عام 2009 أنها تشمل عشرات آلاف الأعضاء، وهم مسؤولون حاليون أو سابقون في وكالات إنفاذ القانون أو محاربون قدامى في الجيش، ويشكّل هؤلاء حوالى ثلثَي أعضائها.

يميل الخارجون عن القانون والمتطرفون والإرهابيون المرتقبون إلى الانضمام إلى سلك الشرطة والقوات المسلحة، لأنهم يعتبرون أنفسهم محاربين قادرين على القيام بأعمال بطولية دفاعاً عن الجماعات التي ينتمون إليها. كان التلميذ العسكري الشاب الذي يبلغ 17 عاماً، وقيل إنه أطلق النار وقتل شخصَين في "كينوشا"، ويسكونسن، في شهر أغسطس الماضي قد سافر إلى هذه المنطقة لدعم ضباط الشرطة المحليين خلال احتجاجات حركة "حياة السود مهمة".

دعت ميليشيا محلية في "كينوشا" الأشخاص "الوطنيين" إلى الحضور "لحمل السلاح والدفاع عن مدينتنا الليلة من العصابات الشريرة". تَصدر هذه المواقف الجريئة نفسها عن أنواع أخرى من المتطرفين. قبل مقتل 49 شخصاً في ملهى ليلي بـ "أورلاندو" عام 2016، تبيّن أن مُطلق النار الذي أقسم يمين الولاء لتنظيم "داعش" كان قد رسب مرّتين في وكالات إنفاذ القانون وأكاديمية الشرطة وعَمِل حارس أمن.

من الواضح أن تجربة الانخراط في الجيش قد تجعل بعض المحاربين القدامى أكثر عرضة للتجنيد في جماعات يمينية متطرفة. يتدرب الجنود على تجريد الأعداء من صفة الإنسانية وينظرون إلى الصراعات وكأنها مسألة حياة أو موت، فتبدو لهم هذه المقاربة منطقية في ساحة المعركة، لكنها تجعل المحاربين القدامى أكثر ضعفاً أمام الحملات الدعائية المتطرفة في الأوساط المدنية. كان المحارب السابق في الجيش ومؤيّد مبدأ تفوّق أصحاب البشرة البيضاء، تيموثي ماكفاي، مسؤولاً عن أسوأ هجوم إرهابي في الأراضي الأميركية، فقتل 168 شخصاً بتفجير مدينة أوكلاهوما عام 1995.

لا يكون معظم المسؤولين في وكالات إنفاذ القانون وعناصر القوات المسلحة متطرفين طبعاً. كانت الجهود التي بذلتها هذه الجهات أساسية لمنع اعتداءات متطرفة وعنيفة، على غرار مؤامرة خطف حاكم ولاية ميشيغان غريتشن ويتمر حديثاً. لكن من حق الأميركيين، رغم ذلك، أن يشعروا بالقلق من انتساب بعض ضباط الشرطة والجنود المكلفين بحماية الشعب إلى جماعات متطرفة.

بدأت الضغوط تتصاعد لدفع الولايات المتحدة إلى إطلاق رد شامل على ما يحصل. خُصّصت جلستا استماع في "الكونغرس" من تنظيم "لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب" و"لجنة مجلس النواب للرقابة والإصلاح" في عام 2020 للتحقيق بالحوادث المرتبطة بفوقية البيض في الجيش وتسلل مؤيدي هذه العقلية إلى أقسام الشرطة المحلية.

كذلك، يدعو أعضاء "الكونغرس" قادة الجيش ووكالات إنفاذ القانون إلى التعامل مع الموضوع بشفافية إضافية. في شهر يوليو الماضي، تواصل أكثر من 36 مشرّعاً من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي مع وزير الدفاع مارك إسبر وطلبوا منه مراجعة سياسات وزارته حول تورط عناصر تتابع عملها حتى الآن في نشاطات متطرفة وتبنّيها أيديولوجيا فوقية.

خلال الشهر نفسه، اقترح النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا، بيت أغيلار، تعديلاً على "قانون إقرار الدفاع الوطني" لمطالبة وزارة الدفاع بتقديم تقرير سنوي إلى "الكونغرس" حول "كل حادثة تنمّ عن مبدأ تفوّق البيض".

كان هذا البند جزءاً من "قانون إقرار الدفاع الوطني" الذي مرّره مجلس النواب في ديسمبر. كذلك، اقترح النائب الديمقراطي عن ولاية إيلينوي، براد شنايدر، تعديلاً على ذلك القانون نفسه وطالب بالإبلاغ عن تسلل أي مؤيدين لمفهوم تفوّق البيض إلى الخدمة العسكرية ووكالات إنفاذ القانون الفدرالية، لكن أُلغي هذا البند قبل أن يصل مشروع القانون إلى مجلس النواب للتصويت عليه.

في السنة الماضية، عُدّل بند مماثل في "قانون إقرار الدفاع الوطني" لإبقاء القوميين البيض خارج الجيش الأميركي، فاستُعملت مصطلحات أكثر غموضاً حول إجراء التحقيقات بشأن المجندين المُشتبه بارتكابهم "نشاطات متطرفة وأعمال مرتبطة بالعصابات".

لم تقدم الوكالات الفدرالية المساعدة بالشكل المناسب دوماً في هذا الملف. رفض مكتب التحقيقات الفدرالي مثلاً حضور جلسة استماع في مجلس النواب في سبتمبر 2020 حول تسلّل عقليات وشبكات مؤيدة لتفوق أصحاب البشرة البيضاء إلى وكالة محلية لإنفاذ القانون، فبرّر رئيسها جايمي راسكين، الديمقراطي من ولاية ماريلاند، ما حصل معتبراً أن المكتب لم يجد أدلة كافية على توسّع نطاق هذه المشكلة.

حقيقة مخاطر التطرف

تستطيع الولايات المتحدة أن تتعلم دروساً كثيرة من المقاربة التي استعملها الألمان لمحاربة تطرّف البيض، مع أن طريقتهم تشتق فعلياً من تجربة إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية بعد محرقة اليهود. تعتبر السلطات الألمانية العمل الأمني جزءاً محورياً من تدابير حماية الديمقراطية والدفاع عن الدستور، علماً بأن المادة الأولى منه تدعو جميع سلطات الدولة إلى احترام كرامة الإنسان وحمايتها. منذ عام 1956، كلّف الجيش الألماني وحدة متخصصة بمكافحة التطرف داخل الجيش، فأجرت تحقيقات مكثفة وأقالت الجنود من مهامهم عند التأكد من حملهم آراءً متطرفة. حتى أن موقعها الإلكتروني العام ينشر دوماً عدداً من القضايا الخاضعة للتحقيق سنوياً. كذلك، كلّفت وكالات الشرطة المحلية مفوّضين كفوئين بالتعامل مع قضايا التطرف ومعاداة السامية.

لا تزال هذه الجهود حديثة العهد في الولايات المتحدة، فقد نشأت مثلاً وحدة جديدة في شرطة نيويورك لمراقبة أعمال العنف المتطرفة ومنع وقوعها. لكن الولايات المتحدة تفتقر - في المقابل - إلى نظام جمع البيانات الألماني لملاحقة مظاهر التطرف اليميني على مستوى الوطن وداخل الجيش ووكالات إنفاذ القانون.

يجب أن تُكلَّف وزارتا العدل والدفاع بتقديم البيانات اللازمة عن هذا النوع من الحوادث أمام "الكونغرس" أو لجان المراقبة المدنية التي تشكّلها الحكومة الفدرالية. ونظراً إلى قابلية المحاربين القدامى للانتساب إلى جماعات يمينية متطرفة، يُفترض أن تخصص الحكومة موارد إضافية لدعم إعادة دمجهم في المجتمع بعد انتهاء خدمتهم من خلال تقديم التوصيات لهم ومعالجة المصابين بإجهاد ما بعد الصدمة وتلبية حاجاتهم النفسية الأخرى. كذلك، يجب أن تخضع المنظمات الداعمة للمحاربين القدامى ووكالات إنفاذ القانون المحلية لتدريب خاص كي تتمكن من رصد المؤشرات التحذيرية التي تنذر بالسلوكيات المتطرفة وتتلقى الموارد والمساعدات المناسبة عند الحاجة.

في النهاية، يترافق التدقيق بمظاهر التطرف اليميني في الجيش ووكالات إنفاذ القانون مع مخاطر معينة. قد تدفع التحقيقات الحاصلة في هذا المجال بالمتطرفين إلى اتخاذ منحىً أكثر تشدداً، فينشطون بطرقٍ يصعب مراقبتها. لكن لا يمكن السماح بانتشار الأفكار والجماعات المتطرفة من دون حسيب أو رقيب داخل المنظمات المُكلّفة في الأساس بحماية الشعب، بما في ذلك أكثر المواطنين ضعفاً. حفاظاً على مستقبل الديمقراطية متعددة الثقافات، لا بد من وضع مشكلة التطرف في الجيش ووكالات إنفاذ القانون في خانة المخاطر التي تهدد الأمن القومي.

*سينثيا ميلر إدريس

سينثيا ميلر إدريس – فورين أفيرز