• هل سنعود إلى حياتنا الطبيعية في الفترة المقبلة أم أن حياتنا تغيرت إلى الأبد ومن دون رجعة إلى الماضي الجميل؟

Ad

- من المستبعد برأيي أن نتمكن من استرجاع وضع طبيعي بالكامل خلال الفترة الراهنة. كانت أحداث عام 2020 عبارة عن تجربة صادمة جداً للناس. كانت سنة حزينة فعلاً ومأساوية. خسر الكثيرون أقاربهم وأصدقاءهم وأحبابهم وزملاءهم وعجز الأولاد عن الذهاب إلى المدارس والراشدون إلى العمل وأرغم معظم الناس على البقاء في منازلهم بدلاً من التمتع بالطبيعة ومجالات الترفيه المختلفة.

اليوم، حين نشاهد صور أشخاص محتشدين جنباً إلى جنب في وسائل النقل العامة أو المباريات الرياضية أو المسارح أو صالات السينما، نشعر بالهلع والخوف. لا مفر من أن نشعر بأنه زمن مختلف عما نعيشه اليوم. سنحتاج إلى بعض الوقت لاسترجاع الثقة ولإعادة الامور الى مجاريها ولاعادة التقارب بين الناس مثلما كان الامر سائداً في الماضي.

• هل سننجح في هزم فيروس كورونا هذه السنة أم أنها مهمة مستحيلة برأيك؟

- نعم، سننجح في الانتصار على وباء كورونا في نهاية الأمر. لا بدّ من ذلك لكن شرط أن نجيد التعامل مع الوضع. نعرف أصلاً كيفية الاحتماء من الفيروس عبر تدابير التباعد الاجتماعي. وقد تتلقى جماعات سكانية واسعة حول العالم اللقاح المضاد لفيروس "كوفيد-19" خلال النصف الأول من السنة الجديدة. بفضل هذه التدابير مُجتمعةً، نأمل في أن يشهد الخريف أو الشتاء المقبل بداية حقبة ما بعد كورونا. لكننا بدأنا الآن مرحلة جديدة وخطيرة من الوباء وعلينا أن نكمل في اتخاذ الاحتياطات اللازمة وعدم الاهمال أو الادعاء بأنّ الأمور كافة عادت إلى طبيعتها السابقة.

• هل تتكلم عن متغيرات الفيروس الجديدة التي ظهرت في بريطانيا وجنوب إفريقيا؟

- نعم أتكلم عن هذه الطفرات الجديدة طبعاً فهي مخيفة جداً. هذه الطفرات مُعدية أكثر من سابقاتها، وقد أصبحت المتغيرات الفيروسية طاغية في هذين البلدَين خلال أسابيع قليلة. لذلك نشعر بأنّ الأمر خطير جداً. سبق ورُصِدت الطفرة البريطانية في دول أخرى، بما في ذلك ألمانيا. لا مفر برأيي من انتشار هذه المتغيرات الجديدة وتفشّيها في أنحاء العالم قريباً للأسف وقد يحصل الأمر بسرعة قياسية كما حصل أساساً حتى الآن في البلدين المذكورين.

نتيجةً لذلك، ستزيد صعوبة السيطرة على الوباء وقد يتفاقم الوضع إذا شهد الفيروس تغيرات إضافية ولا نستطيع أن نستبعد هذا السيناريو خصوصاً أن نسبة احتمال حدوثه مرتفعة جداً. نحن اليوم في سباق دراماتيكي ضد فيروس متبدّل يخضع لضغوط مناعية هائلة. وليس ذلك بأمرٍ بسيط أبداً بل هو مخيف فعلاً.

• ما العمل إذاً للفوز في هذا السباق؟

- أولاً، يجب أن نتخذ تدابير عاجلة وصارمة لإبطاء انتشار المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة 2 ومتغيراتها الجديدة. وعلينا أن نقوم بذلك بشكلٍ سريع ومن دون تباطؤ. ثانياً، يُفترض أن نعطي اللقاح إلى أعداد كبيرة من سكان العالم في أسرع وقت ممكن خلال النصف الأول من عام 2021. يجب أن نحقق هذا الهدف قبل الصيف المقبل. هذا مهم وضروري جداً. لن تكون العملية سريعة بما يكفي إذا انتظرنا حتى الخريف. بل ستظهر حينها موجة جديدة في شتاء عام 2021. يجب أن نعطي اللقاح لملايين الناس أسبوعياً إذاً. إنه تحدٍّ هائل وليس بأمرٍ سهل على الإطلاق كما قلت سابقاً! كأننا في سباق مميت مع الزمن فإما أن نربح فنبقى وإما أن نفشل فنندثر بأبشع الطرق المأسوية.

• لكن لا يمكن تلقيح أعداد هائلة من السكان بحلول الصيف استناداً إلى لقاحَين: واحد من شركة "بيونتيك" وقد بدأ توزيعه أصلاً، والآخر من شركة "مودرنا" ومن المتوقع أن يحصل على ترخيص لاستعماله في أوروبا هذا الأسبوع.

- اللقاحات المبنية على مرسال الحمض النووي الريبي مهمة، لكن ستظهر لقاحات أخرى قريباً. حصل لقاح شركة "أسترا زينيكا" وجامعة "أكسفورد" على موافقة عاجلة للتو في المملكة المتحدة. ونأمل أيضاً أن تتم المصادقة على اللقاح القائم على نواقل الفيروسات من إنتاج شركة "جونسون آند جونسون" قريباً. هذه اللقاحات بالغة الأهمية نظراً إلى إمكان استعمالها حول العالم.

تتراوح فاعلية لقاح "أسترا زينيكا" بين 62 و90 في المئة، ونعرف أنه قادر على تجنّب الأمراض الحادة. لم يضطر أحد من المشاركين في الدراسة لدخول المستشفى بعد تلقي اللقاح. نتمنى إذاً إنتاج مزيد من اللقاحات التي ستفيد البشرية وتحميها من الوباء القاتل. الكميات التي نحتاج إليها من اللقاحات مهولة وينبغي توفيرها في القريب العاجل كي نقضي على الفيروس.

• هل يُعقَل أن يتعطل مفعول اللقاحات ضد المتغيرات الجديدة؟

- حتى الآن، لا شيء يشير إلى حصول ذلك. حتى الآن، لا أدلة واضحة على هذا الاحتمال. لكن تسود مخاوف من تعطّل الأجسام المضادة وحيدة النسيلة التي تطورت لمعالجة المصابين بحالة حادة من فيروس "كوفيد-19" عند احتكاكها بالمتغيرة المنتشرة في جنوب إفريقيا. إذا سُمِح للفيروس بالانتشار بلا رادع، يرتفع احتمال أن تظهر طفرات قادرة على زيادة فاعلية المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة 2. إنها مسألة وقت. لن أتفاجأ إذا تغيّر الفيروس في مرحلة معينة لدرجة ألا تعود اللقاحات فاعلة. سنضطر في هذه الحالة لمراقبة عودة الوباء من دون أن نتمكن من تحريك أي ساكن، حتى لو تلقى الجميع اللقاح. هذا السيناريو مرعب بمعنى الكلمة ولا أريد أن أفكر فيه أبداً مع أن السيناريو هذا محتمل جداً للأسف!.

• هل نستطيع الاستعداد لحالة طارئة من هذا النوع؟

- نحن بأمسّ الحاجة إلى تطوير لقاحات وأدوية من الجيل الثاني لاستهداف بروتينات إضافية من الفيروس وتجنّب المتغيرات الجديدة. كذلك، يجب أن نراقب عن كثب طريقة تطور الفيروس في أنحاء العالم. لرصد المتغيرات الجديدة مع مرور الوقت، لا بد من فك شيفرة التسلسل الجيني للفيروس في عدد أكبر بكثير من عيّنات المصابين. لكن لسوء الحظ لا تقوم البلدان كلّها بتجزئة فيروسات كافية. تحتاج البلدان إلى مواكبة التطورات طبعاً. قد تظهر طفرات جديدة في أي مكان من العالم، لذا من مصلحتنا جميعاً أن ندعم منظمة الصحة العالمية لتنسيق جهود المراقبة حول العالم. علينا أن نتكاتف جميعاً لمحاربة الوباء شعوباً وعلماء، فهدفنا جميعاً واحد: القضاء على الوباء بأفضل وأسرع طريقة ممكنة.

• دائماً دافعتَ عن إبقاء المدارس مفتوحة أطول فترة ممكنة. ما أفضل مسار بعد انتهاء العطلات؟

- إنه وضع مأساوي، لكن يستحيل برأيي أن يُعاد فتح المدارس سريعاً نظراً إلى مستوى الإصابات. ستؤدي هذه الخطوة إلى تسريع انتشار الفيروس والمتغيرات الجديدة. تكشف أحدث التقديرات أن 85 في المئة من سكان العالم يجب أن يطوّروا مناعة ضد المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة 2 عبر تلقي اللقاح لكبح الوباء.

• ما أكثر عامل فاجأك بشأن فيروس كورونا؟

- تراجع الإصابات في إفريقيا أكثر مما توقّع الجميع! كنت أتوقع أن يطرح فيروس كورونا الجديد مشكلة هائلة في هذه القارة بالذات لكن لم يحصل ذلك، حتى الآن على الأقل.

• هل يمكن أن يتغير هذا الوضع؟

- للأسف نعم. تتعامل إفريقيا مع الأوبئة منذ عقود، والشعب هناك أصغر سناً من سكان أوروبا وأقل ترابطاً في ما بينه، وتستفيد القارة أيضاً من المناخ الأكثر دفئاً هناك. لكني أخشى أن تنتشر المتغيرة الجديدة من جنوب إفريقيا قريباً وتصل إلى القارة الإفريقية كلها وتُغيّر الوضع القائم. هذا الاحتمال يقلقني كثيراً.

• دافعتَ منذ مرحلة مبكرة عن توزيع اللقاحات بطريقة منصفة. هل ستنجح هذه الخطة؟

- الفرصة موجودة ويجب أن تنجح هذه العملية. يجب أن نوزع اللقاح لأكبر عدد من الناس بسرعة قياسية فعلاً. لا يتعلق التوزيع العادل للقاحات بأسباب أخلاقية فحسب. إذا بدأنا بإعطاء اللقاح إلى الناس في البلدان الغنية حصراً تزامناً مع السماح باستمرار تفشّي الفيروس بلا رادع في إفريقيا والهند وأميركا الوسطى والجنوبية، لا مفر من أن تظهر متغيرات جديدة في هذه الأجزاء من العالم. ولا شك في أن هذه المتغيرات الجديدة ستصل إلى أوروبا. ثم سنعود إلى نقطة الصفر. لذلك ينبغي أن نكون متيقظين ومنتبهين ونسعى الى مكافحة الوباء بطريقة متوازنة في العالم بأسره وليس في البلدان الغنية فقط.

• لماذا عجزت أوروبا عن التكيّف مع الوباء بطريقة أفضل؟

- المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة 2 فيروس يصعب التحكم به. ليس القضاء عليه عملية سهلة أبداً. لقد وصل هذا الفيروس الآن إلى جميع القارات حول العالم، بما في ذلك القارة القطبية الجنوبية، وسبق أن أصيب به مئات ملايين الناس على الأرجح. كان انتشار الفيروس سريعاً نسبياً. تشمل أوروبا من جهتها جماعات سكانية مُسنّة ومعرّضة لأمراض خطيرة. هذه القارة مكتظة بالسكان أيضاً وثمة فرق كبير بين الأغنياء والفقراء، ويؤثر هذا العامل على مسار انتشار الفيروس. أخيراً، لا تتمتع أوروبا بخبرة واسعة في مجال التعامل مع الأوبئة الخطيرة، على عكس دول آسيوية مثل فيتنام لذلك تواجه أوروبا صعوبة في مواجهة الفيروس والتغلب عليه للاسف.

• عشتَ في فيتنام سنوات عدة وعملتَ هناك باحثاً وطبيباً. حدثنا عن هذه التجربة ماذا تعلمت منها؟

- تجيد فيتنام التعامل مع النوع الجديد من فيروس كورونا. كنتُ موجوداً في فيتنام في عام 2003، حين تفشى فيروس "سارس" الذي يسبب أمراضاً رئوية ثم إنفلونزا الطيور بعد فترة قصيرة. يشهد البلد أيضاً حمى الضنك والملاريا وأمراضاً معدية كثيرة أخرى. لذا تكون دول مثل فيتنام معتادة على التعامل مع الأوبئة فلا تقف في ضياع أمام هذه الأنواع من الأوبئة وتتعامل معها ببرودة أعصاب منقطعة النظير.

• يسود في فيتنام نظام الحزب الواحد على غرار الصين. هل تكون الأنظمة الدكتاتورية أكثر براعة في محاربة الأوبئة؟

- لا، لا أظن ذلك. لننظر إلى النرويج وفنلندا وغانا ونيوزيلندا وأستراليا. هذه الدول كلها ديمقراطية ونجحت في السيطرة على الفيروس أيضاً. لا يتعلق الأمر إذاً بالدكتاتورية. يتعلق أهم عامل بالاستثمار في قطاع الصحة العامة على المدى الطويل وبقدرة الحكومات على مصارحة مواطنيها بالحقائق. يرتبط الوضع فعلياً بحجم الثقة بين المواطنين والسياسيين وبتطبيق استراتيجية مناسبة لضمان التواصل بينهم.

• ما الذي تعنيه تحديداً؟

- الناس لا يريدون سماع الأكاذيب، ولا يريدون سماع وعودٍ يعجز أصحاب السلطة عن تحقيقها. الناس بحاجة إلى طرف يثقون به ويشعرهم بالأمان وبأن كل الأمور ستنتهي إلى نهاية سليمة وبأنهم سيكونون على خير ما يرام في نهاية المطاف.

• هل كان رفع سقف التوقعات والتلويح بالامتناع عن الإقفال التام للمرة الثانية في ألمانيا نهجاً خاطئاً إذاً؟

- الناس يطالبون بالشفافية والصدق. لكن يصعب الالتزام بهذه الصفات حين يطلق الأكاديميون أو السياسيون وعوداً مفرطة ولا ينفذون منها إلا القليل. الناس بحاجة الى الصدق وليس إلى الاكاذيب المضللة.

• كيف سيغيّر هذا الوباء وجه العالم؟

- إنه أول تَحَدٍّ حقيقي في القرن الواحد والعشرين على مستوى العالم. يستحيل أن نعود إلى وضعنا الطبيعي السابق بعد هذه المرحلة. أتمنى من كل قلبي أن يجبرنا هذا الوباء على التشكيك بأسلوب حياتنا. وأتمنى أن يجعلنا هذا الوباء ندرك مدى هشاشتنا، لا تجاه الأوبئة فحسب، إذ يكفي أن نفكّر بعواقب الجراثيم متعددة المقاومة أو التغير المناخي. علينا أن نغير سلوكنا فنهتم بالطبيعة والبيئة المحيطة بنا ونهتم بالعلوم وبالاستثمار بها بشكل كبير لأنها خلاصنا وطريقنا للتخلص من كل الأوبئة التي تتربص بنا وقد تؤدي الى هلاك البشرية.

• هل تشعر بالتفاؤل؟

- طبعاً أنا متفائل! عليّ أن أكون كذلك. لولا فسحة الأمل ماذا نفعل؟ لكن إذا لم يتغير الوضع بعد هذه الظروف، فلا مفر من أن تتكرر الأزمة مجدداً. نتيجة الأهوال التي شهدتها الحربان العالميتان، أسست الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وجهات مشابهة أخرى. كانت هذه الإصلاحات ضرورية وقد ساعدتنا على العيش في عالمٍ آمن أكثر من أي وقت مضى. يجب أن يتكرر هذا النوع من الجهود العالمية المشتركة الآن وقبل فوات الأوان طبعاً.

فيرونيكا هاكينبروش