تبدو طرقات وسط البوسنة خطيرة في زمن السلم بقدر ما كانت عليه بين عامي 1992 و1995 تقريباً، أي الفترة التي تحوّلت فيها تلك الطرقات إلى خطوط أمامية خلال الحرب الأهلية. ثمة حلقات ضيّقة في أسفل الخوانق التي يتدفق فيها نهر "فرباس" بقوة تيار جارف. بالكاد تغيّر المشهد بين "بانيا لوكا" وسراييفو، إذ تُذكّرنا الأجواء هناك بمشاعر الكراهية القديمة بين الجيران الذين عانوا الكثير في هذه القرى الرمادية والرطبة، فيتجمّعون حول كنيستهم أو مسجدهم.بعد 25 سنة على عقد اتفاق السلام الذي تم التفاوض عليه في "دايتون" (أوهايو) وينص على تجميد الصراع، عمدت القرى إلى محو معظم جراحها. في الشمال، أعادت عاصمة صرب البوسنة بناء مساجدها بعد تفخيخها بالديناميت. وفي وسط البلاد، أي منطقة البوسنة والهرسك ومعقل الاتحاد الكرواتي المسلم، تزيّنت المساحات بمراكز تجارية لامعة بتمويلٍ من دولارات الخليج، لكن لا تزال خطوط الترامواي القديمة تعمل كما في السابق. ظهرت أجزاء من طرقات سريعة مُموّلة من أوروبا في بعض الأماكن، لكنّ عددها لا يكفي للتأكيد على حداثة البلد. وحتى فندق "هوليداي سراييفو" الذي كان يشكّل مقراً رئيسياً للصحافيين سابقاً لا يزال متهالكاً ومتصدعاً لكنه يحافظ على التصنيف المتقدّم نفسه رغم كل شيء. يسهل أن نقابل هناك رجال أعمال يشبهون المتآمرين الغامضين وسط حراس شخصيين.
ما بعد المعارك الدموية
بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من المعارك الدموية التي أسفرت عن مقتل أكثر من مئة ألف شخص، عُقِد اتفاق "دايتون" للسلام في باريس في 14 ديسمبر 1995، فنجح في الفصل بين المقاتلين مقابل نشوء بنية سياسية معقدة. نتيجةً لذلك ظهر كيانان: جمهورية صرب البوسنة في 49 في المئة من الأراضي، والاتحاد الكرواتي البوسني في 51 في المئة منها. حصل كل واحد منهما على استقلالية كبيرة ورئيس مستقل وحكومة وبرلمان. وتشرف عليهما دولة فدرالية حيث يتقاسم الكروات والبوسنيون والصرب السلطة بالتناوب تحت وصاية الممثل الأعلى للأمم المتحدة. وفق تقديرات "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، قام 3.2 ملايين بوسني (يصل متوسط عائداتهم إلى 6 آلاف يورو سنوياً) بتمويل 13 حكومة وبرلمان وخمسة رؤساء و149 وزيراً على الأقل.لكن بعد مرور ربع قرن على نشوء تلك التركيبة، وصل هذا النظام إلى أقصى حدوده ولم يعد يرضي معظم الناس. يقول شفيق دزافيروفيتش، عضو بوسني في الرئاسة الفدرالية: أوقف اتفاق "دايتون" الحرب والأعمال العدائية ورسّخ السلام وحافظ على استمرارية الدولة. لكنّ ذلك الاتفاق غيّر بنية البلد أيضاً وبات يعكس مظاهر التطهير العرقي ويُعمّق العدائية. حتى إنه منع عودة الجماعات التي هُجّرت من منازلها.حفاظاً على وضع المراوحة، عمدت الأحزاب القومية التي كانت تطغى على المشهد العام خلال الحرب إلى ترسيخ مكانتها بشكلٍ دائم في السلطة. في هذا السياق، توضح ماجدة روج من "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية": "لا تتعلق مشكلة البوسنة الحقيقية بالصراع العرقي المُجمّد، بل بشلل الدولة المجمّدة، وهو وضع سمح المجتمع الدولي بحصوله".في جمهورية صرب البوسنة، يصعب أن نقابل شخصاً يشعر بأنه "بوسني". تقول ألكسندرا بيتريك، مديرة منظمة "نساء متّحدات" غير الحكومية: "نحن وليدة الحرب، على غرار جميع الدول المنفصلة. لكل جماعة فخرها الوطني ونظامها الخاص من القيم".ويضيف نيكولا بولوفيتش، رئيس البرلمان الطلابي في جامعة "بانيا لوكا": اتفاق "دايتون" هو العامل الوحيد الذي يحافظ على وحدة الشعوب الثلاثة. وفي حال حصول استفتاء معيّن عن هذا الموضوع، يظن بولوفيتش أن صرب البوسنة سيختارون شكلاً محدداً من الاستقلال. غالباً ما يلوّح ميلوراد دوديك، رئيس البوسنة والهرسك وأقوى زعيم في جمهورية صرب البوسنة، بهذا الموقف ويعلن تأييده الانضمام إلى البوسنة. إنه أفضل حل برأي الشاب بولوفيتش لأن جميع الأطراف تعيق بعضها البعض في الوقت الراهن منعاً لتفوّق الآخرين عليها.ويقول فالنتان إينزكو، الممثل الأعلى للأمم المتحدة في سراييفو منذ 12 سنة: "لقد فشلنا في مصالحة الجماعات المتناحرة. لم نبرع في فرض منهج مدرسي موحّد أو كتب تاريخ مشتركة أو تبادلات بين الشباب من مختلف الأطياف... كان تحقيق هذا الهدف ممكناً عندما كنا ننشر 60 ألف جندي تابع لحلف الناتو هنا. لكن أيّد البعض في تلك المرحلة الحفاظ على خطوط التقسيم كما في كوريا! اليوم، لم يبقَ إلا 600 عنصر من قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي. ثمة نسخ صغيرة من نيلسون مانديلا وسط الشعب في كل مكان، لكنّ القادة يسلطون الضوء على الاختلافات دوماً ويحرصون على بث الانقسامات".إحباط عام
وبسبب غياب وحدة الصف، كان الفساد جزءاً مريراً آخر من اتفاق "دايتون". لم يتردد ميلوراد دوديك في الإعلان على التلفزيون أن أي شاب يبحث عن عمل في جمهورية صرب البوسنة سيستفيد من الانتساب إلى حزبه. وتعليقاً على هذا الموقف، يقول صاحب مشروع شاب في "بانيا لوكا": "لم يفاجئنا كلامه بأي شكل. يعرف الجميع هذا الواقع أصلاً". في سراييفو، يرفض "حزب العمل الديمقراطي" (الحزب القومي المسلم) هذا الأداء الإداري المبهم وحالة النقل العام الكارثية وشحّ المياه بسبب عدم صيانة نظام الري. وتشهد البوسنة والهرسك حالة من الإحباط العام ويتّضح ذلك في تسارع إيقاع هجرة السكان: هاجر 75 ألف شخص، معظمهم من فئة الشباب الجامعي، إلى ألمانيا أو سويسرا أو صربيا في السنة الماضية. واستناداً إلى الإيقاع الراهن، يتوقع تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن يقتصر عدد السكان في البوسنة على مليون ونصف نسمة بعد خمسين سنة، منهم 300 ألف فقط في جمهورية صرب البوسنة.ويقول فالنتان إينزكو متعجباً: "يبدو أن السياسيين وحدهم يشعرون بالرضا عن الوضع القائم لأن جيوبهم ممتلئة"! يشغل هذا النمساوي، صاحب الابتسامة اللطيفة البالغ من العمر 71 عاماً، منصبه منذ وقتٍ طويل وهذا ما يمنعه على الأرجح من التمرّد على ما يحصل بالشكل المناسب. لكنه يؤكد أن الوضع لم يكن كذلك دوماً، بل يُذكّر بأن المرحلة الأولى من الوصاية الدولية، بين عامي 1996 و2006، حققت بعض "المعجزات"، منها إقرار 200 قانون، وفرض عملة مشتركة ونظام موحّد للوحات السيارات، وتجديد حرية التنقل، واختيار علم ونشيد وطني (مع أن الخلاف مستمر حول كلماته). ويضيف إينزكو: "في هذه الحقبة، تصرّف المجتمع الدولي بأسلوب جدّي وصارم. ثم قررنا الانتقال إلى مرحلة الملكية المحلية بحلول عام 2006 أو 2007. إنها خطوة ضرورية كي يستعيد البلد تماسكه، لكن يجب أن نعترف بأن السجل المُحقّق حتى الآن ليس لامعاً. لم يصدر أي تشريع مهم ولم تنشأ أي مؤسسة جديدة منذ ذلك الحين".ويبدي الممثل الأعلى للأمم المتحدة استعداده لاستخلاص دروس مفيدة من تلك التجارب، فيقول: "في عام 2021، سأنتقل إلى المرحلة الثالثة التي تقضي بفرض تعليمات جديدة وتحديد مُهَل نهائية صارمة ومناسبة مجدداً". وأعطى إينزكو للتو مهلة ستة أشهر إلى ميلوراد دوديك، تحت طائلة منعه من السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي، وطالبه بسحب لوحة تذكارية من مدينة "بال"، معقل الصرب خلال الحرب، لأنها تُكرّم رادوفان كاراديتش، الرئيس الأسبق لجمهورية صرب البوسنة الذي دانته محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويضيف إينزكو: "من واجبنا، نحن ممثّلي المجتمع الدولي، أن نجدد الضغط على السياسيين المحليين كي يوقفوا الألاعيب التي تعوق أي تقدّم. أريد أن يحصل تحسّن جذري في دولة القانون، بدءاً من المجلس القضائي". اتُّهِم رئيس هذا المجلس حديثاً بقضايا فساد فاضحة واضطر لتقديم استقالته. ويوافقه الرأي شفيق دزافيروفيتش، فيقول: "على الدول المجاورة للبوسنة أن تتحمل مسؤولياتها لإخراج الدولة من حالة الشلل التي تعيشها".رؤية طويلة الأمد
من المعروف أن استعراض القوة عبر محاولة فرض هذا النوع من التدابير يبقى نهجاً محدوداً مادام الممثلون الدبلوماسيون يتابعون التشديد على أهمية المنطقة استراتيجياً. غير أن سفيرا أوروبيا يلفت إلى أن إهمال هذه المنطقة سيترافق مع ثمن باهظ؛ لأن أوروبا تتأثر بأبسط اضطراب هناك ومن مصلحة الأوروبيين أن يحافظوا على استقرار البلقان لدرجة أن يصرف الاتحاد الأوروبي بين 80 و100 مليون يورو سنوياً في هذا البلد. ويردف إينزكو: "لا أريد مقارنة الوضع هنا بمنطقة ناغورنو كاراباخ، لكن تثبت آخر الأحداث هناك أن الصراعات المجمّدة لا تبقى على حالها إلى الأبد. وإذا أعلنت جمهورية صرب البوسنة استقلالها مثلاً، أتوقع أن يتجدد خطر اندلاع الصراع".وقد يتحقق التقدم المنشود انطلاقاً من مكان غير متوقع. خلال الانتخابات المحلية في الشهر الماضي، انتُخِب الصربي سردجان منديك رئيساً لبلدية وسط العاصمة من جانب سكان تصل نسبة المسلمين فيهم إلى 94 في المئة. ظهرت على التلفزيون امرأة متقدمة في السن وبدت عليها معالم التعجب والتأثر وقالت: "سراييفو الماضية عادت"! في "بانيا لوكا"، فاز وجه جديد أيضاً اسمه دراسكو ستانيفوكوفيتش (27 عاماً) بمنصب رئيس البلدية ضد مرشّح ميلوراد دوديك، وتقتصر النقطة المشتركة بينهما على رفع شعار محاربة الفساد في حملتهما.سردجان منديك هو الرئيس السابق لصحيفة "التحرير" في سراييفو وكان الجانب البوسني قد استهدفه خلال الحرب، هو يتبنى اليوم موقفاً مُطمئناً فيقول: "تسيطر الأحزاب نفسها على المشهد السياسي منذ 25 سنة، وهي تُدعّم خطاباتها القومية المتبادلة طوال الوقت وقد سئم الناس هذا الوضع. سنواجه مشاكل الناس على أرض الواقع وأراهن بأن نجاحنا خلال سنتين سيسمح لنا بتوسيع مسؤولياتنا في الاتحاد الفدرالي كله. سيتحقق التغيير المنشود من أدنى المراتب إلى أعلاها"! قبل التطرق إلى المسائل المالية، يطالب منديك بمساعدة عملية من الداعمين الدوليين: "تتعدد المساعدات المطلوبة في هذا المجال، منها التدقيق المالي وتوصيات ومهارات مفيدة. حين نفتح أخيراً ملف الفساد الفاضح في هذا البلد، سيصبح الوضع خطيراً بمعنى الكلمة لأننا سنحارب مافيا الدولة".ويتعهد الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بتقديم الدعم اللازم لتحقيق هذه الأهداف. لكن يقول فالنتان إينزكو محذراً: "يجب أن نضع رؤية طويلة الأمد وستبقى الوصاية الدولية ضرورية خلال عشر سنوات أو 15 سنة إضافية". في النهاية، يبدي سفير أوروبي تفاؤله بالمستقبل لكنه يعترف بالمصاعب المرتقبة قائلاً: "تسعى جهات مؤثرة كثيرة إلى بناء الجسور بين مختلف الجماعات. لكن طالما يفتقر البلد إلى رجل دولة مثل ويلي براندت الألماني الذي ركع أمام الحي اليهودي في وارسو، أو مبادرة كتلك التي جمعت بين هلموت كول وفرانسوا ميتران حين أمسكا بأيديهما في منطقة "فردان"، ستبقى نتائج هذه الخطوات محدودة. لكنّ بلوغ هذه المرحلة من التسامح يبقى بالغ الصعوبة".