مجلس ولد ليموت
سأحاول في هذا المقال أن أكون على مسافة (مناسبة) من جميع الأطراف، وصفة (مناسبة) هنا لا تعني الحياد، فالحياد في موضع المواطن المنسحق بين مطرقة الحكومة وسندان المجلس هو رفاهية لا أملكها وأمر صعب جداً، بل مستحيل يضاف لخانة المستحيلات الثلاثة، ومع هذا لن أزعجكم بنظريات جمهور الكرة السائدة حاليا على مدرجات الحب الأعمى أو المصلحة العوراء، فهي لا تستهويني وخطط كخطة "كذاب ربيعة خير من صادق مضر" وخطة "خشمك ولو كان عوج"، هي خطط لم تنفع أصحابها بالأصل، والتاريخ يشهد على ذلك لكي تنفعنا وتنفع بلدنا. المجلس الحالي، وكما هو مسار الأحداث، ولد ليموت، هذه هي الحقيقة الساطعة كالشمس، والتي لا يغطيها مناخل "ربما، ويا ليت، وكنت أظن، وخاب ظني"، فكل المؤشرات التي تطفو فوق السطور وتحتها تقود لذلك، يقول الفيثاغورثيون الأرقام لغة الحقيقة، والأرقام لا تكذب إلا إن خطها طبعا مشعوذو الإعلام والاقتصاد والسياسة على "ورقة طلاسم" ليسحروا بها جمهورهم، الأرقام تقول إن ٤٢ نائبا حضروا اجتماع ما بعد الانتخابات، وهؤلاء لم يُجرّوا بالسلاسل أو يُختطفوا من الشوارع لكي يكونوا جزءا من الخطاب الذي صدر من الاجتماع، والنواب ذاتهم الذين امتطوا صهوة الباركود من التزم منهم ومن لم يلتزم، وسواء كان العدد ٢٨ أو ٢٤ مضافاً إليهم نواب استجواب رئيس الحكومة الـ٣٨ كانوا كلهم ضمن سياق السلم الموسيقي الشعبي لا خارجه، ولم يكونوا نشازا عن ذاك السلم. هنا تُسجل أرقام واضحة ومندفعة تسعى إلى مطالب محددة وصريحة ومعلنة، وفي المقابل هناك حكومة تملك رقما دستوريا محترما هو جزء من تركيبة المجلس، وسعت من خلاله لرتم معين جُرب في المجالس السابقة، يقتضي التسويف وكسب الوقت وإيجاد ثغرة ما في جدار الامتعاض النيابي، والمحصلة أن هناك سيلاً جارفاً أفرزته انتخابات شعبية يقف أمامه سد قوي نوعا ما، حاول قدر المستطاع الصمود في بدايات دور الانعقاد حتى ظهر التصدع وبشكل واضح على جدرانه بعد بيانات التأييد لاستجواب رئيس الحكومة.
وما بين هدير السيل الجارف وتصدع الجدران الحكومية تقف القضايا الشعبية والمؤجلة موقف المتفرج على ضفاف هموم المواطن الحقيقية، ليشاركهم فقط في معركة عض الأصابع: هم يعضونها في مواجهة بعضهم، وهو يعضها ندما على ضياع حلمه وأمنياته في مجلس مختلف، ولكنه مع الأسف لم يكن مجلسا مختلفا بل كان مجلسا خلافيا لا محل للتهدئة في إعراب مضبطته الصاخبة، بل صراخا وصريرا تدعمهما أدوات دستورية يملكها كلا الطرفين، ولن يوفرا منها شيئا كما هو واضح، من الاستجواب حتى عدم التعاون مرورا بتعطيل الجلسات وعرقلة التشريعات اقتناعا أو عنادا. فكل الأرقام السابقة تقول ذلك وبدون أن تجامل أحداً، وهنا لا فائدة من محاولة إنعاش جنين ٢٠٢٠ الدستوري أو جنون ٢٠٢٠ الخاص بنا إن صح التعبير، فالجنون كل الجنون أن تواجه ظروفا استثنائية يقرع طبولها عاليا عالم مضطرب من حولنا يترنح تحت تأثير خمر كورونا، وأحداث أخرى جسام لا تخفى على أحدٍ، ولا يمكن مواجهتها أبدا بشجارات مجلسية كهذه، لا ثمرة دستور فيها ولا ظلا وطنيا ولا حتى شربت وعودا انتخابية ولا حامض حلو تنمويا، إلا في حال كان الحل الوحيد قبل الحل الدستوري هو الوصول إلى صورة توافقية يتصالح فيها السيل مع السد تحت مظلة تفهم كل منهما لدور الآخر، وبرعاية مصلحة النهر الواحد، وحتى ذاك الحين يبقى كل كلام غير هذا كلاماً مأخوذاً خيره، فهذا هو صوت العقل المستيقظ الذي يراقب قمر مصلحة الوطن أثناء ليل خلافنا الطويل، والعقل صادق حاله حال الأرقام، ولكن صدق شاعرنا فهد العسكر: "لا يطاق الصحو في ذا البلد".